الخميس، 13 ديسمبر 2012

من مؤلفات نجيب محفوظ

بين القصرين

بين القصرين


السيد، أمينة، وأبناء وبنات وبيت كبير، معالمه تلك التي بقيت عالقة في الذاكرة بعض من خطوطها، فناء واسع وحركة دؤوب تبدأ منذ ساعات الصباح الأولى لتهمد نبضاتها عند ساعات المساء، أحداث ومجريات يستحضرها نجيب محفوظ بأسلوبه الشيق، يسحب القارئ المعاصر لفترة الأربعينات في مصر، ليسترجع أياماً باتت في حضن الذاكرة، وليعرف القارئ الذي لا يمت بصلة إلى تلك الفترة، ليعرّفه على أجواء ومناخات القاهرة وبيوتها في تلك الفترة التي كانت حافلة بالأحداث السياسية والاجتماعية يستحضرها نجيب محفوظ نابضة بالحياة تموج حركتها حية في ناظري القارئ وليمضي شاهداً على أحداث ذلك العصر وواحداً يتآلف مع أفراد تلك العائلة يتحلى بالجدية والصرامة مع السيد، وبالصبر والحلم وبسداد الرأي والطاعة مع أمينة، وباللامسؤولية مع ياسين وبالحسّ الوطني مع كمال ومع الفتاتين بالطيبة والأدب... ومحفوظ في ما بين قصريه خيال محلق، وقلم سيّال، وجعبة روائية معطاءة تترك القارئ هناك معلقاً بسحر أربعينات القاهرة، عاداتها وتقاليدها، وأحداثها من خلال إبداع نجيب محفوظ.


قصر الشوق

قصر الشوق

هكذا كانت تقف في المشربية الليالي المتعاقبة تراقب الطريق من وراء الخصاص، فترى طريقاً لا يتغير، والتغير يدب إليها غير متوان. وعلا صوت النادل في القهوة فتطاير إلى الحجرة الصامتة كالصدى، فابتسمت وهي تسترق النظر إلى السيد". وهكذا يمضي نجيب محفوظ في الجزء الثاني من ثلاثيته "قصر الشوق" كما تمضي الحياة ملونة بلون الزمان وبلون التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. تبدلات تقتفي أثرها سردية نجيب محفوظ الروائية التي يتابعها القارئ بشوق وشغف. ليقف على مجريات الأمور مع ياسين الذي تزوج ثم طلق زوجته، والسيد الغارق في مشاكل أولاده، وأمينة التي ومهما تغير الزمان تبقى الأم المتفانية بإخلاص لعائلتها ولزوجها تدرك مغامراته ولكنها تغيبها في ذهنها. وخديجة وعائشة وزيجات وأولاد... وكمال ونجاح بعد نجاح ووطنية مقلقة تزج صاحبها بأتون المظاهرات والاحتجاجات والنشاطات السياسية المعادية للإنكليز... صفحات من التاريخ يقتطفها نجيب محفوظ يلونها بلون الواقع الممتزج بحيوية الحدث وبإبداع الخيال الروائي المتميز بالعفوية والتلقائية التي تلقي ظلالاً رائعة على "قصر الشوق".



السكرية

السكرية


تفاوتت الرؤوس حول الحجرة وانبسطت فوق وهجها الأيدي، يدا أمينة النحيلتنا المعروقتان، ويدا عائشة المتحجرتان، ويدا أم حنفي اللتان بردتا كغطاء السلحفاة... وكان برد يناينر يكاد يتجمد ثلجاً في أركان الصالة، تلك الصالة التي بقيت على حالها القديم بحصرها الملونة وكنباتها الموزعة على الأركان، إلا أن الفانوس القديم بمصباحه الغازي قد اختفى وتدل مكانه في السقف مصباح كهربائي، كذلك تغير المكان، فقد رجع مجلس القهوة إلى الدور الأول، بل انتقل الدور الأعلى جميعه إلى هذا الدور تيسيراً للأب الذي لم يعد قلبه يسعفه على ارتقاء السلم العالي". هكذا يكشف نجيب محفوظ الستار عن هذا المشهد وهو الأول في "السكرية" في الجزء الثالث، من ثلاثيته. خطوات الزمان بوقع دبيبها تتجلى واضحة على الأجساد والأولاد والأمكنة والأرجاء. وحتى على الأخلاق والعادات، يتابع محفوظ تحرك الزمان من خلال عائلة السيد، الملابس تتبدل، الأفكار تتغير، والشخصيات: السيد، أمينة، ياسين، كمال، خديجة، عائشة، ما زالت تمتلك زمام الحركة في مجريات الأحداث، ولكن يضعها نجيب محفوظ في إطار واقعي محكوم بسمات العنصر الزمني وبعنصر التبدلات السياسية والاجتماعية التي تتضي كلها تغيرات ولكنها تغيرات خاضعة لكل حسب ما حدد محفوظ له شخصيته. يحرك نجيب محفوظ أحداثه وشخصياته ببراعة المؤرخ والسياسي وعالم النفس والاجتماع في دائرة تبقي القارئ رهين الصفحات والسطور بل الكلمات، لتحلق به في سماء الخيال من خلال تنقلاته مع الشخصيات دون أن تنسيه أن ما يقرأه رواية أحداثها مرت من حارة إلى حارات القاهرة وفي زمان مضى.


الشحاذ

الشحاذ

وفي يأس مرير قال: لا شيء. تهلل وجهها فاربد قلبه والتمعت عيناها بفرحة ظافرة فتجهمت الدنيا، وتجلى الخريف في الجو وانتشر في أعالي الشجر اصفرار باهت. وعكست قوافل من سحب بيضاء نصاعتها فوق الماء الرصاصي. وتضمن الفراغ المنابي أنفاماً صامتة من الرقة والحزن، وأسئلة مضنية عسيرة الجواب. وتضخمت كذبته حتى أنذرته بالعدم. ومن شدة ضيقه زار مصطفى بمكتبه بالمجلة. وتجدد النقاش بلا نتيجة وقال له مصطفى: لقد جاريتك وساعدتك على أمل أن يتبين لك عبث المحاولة ولكنك غرقت..."


ميرامار

ميرامار

الإسكندرية أخيراً. الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع. العمارة الضخمة الشاهقة تطالعك كوجه قديم، يستقر في ذاكرتك فأنت تعرفه ولكنه ينظر إلى لا شيء في لا مبالاة فلا يعرفك، كلحت الجدران المقشرة من طول ما استكنت بها الرطوبة. وأطلت بجماع بنيانها على اللسان المغروس في البحر الأبيض، يجلل جنباته النخيل وأشجار البلح ثم يمتد من طرق قصي حيث تفرقع في المواسم بنادق الصيد. والهواء المنعش القوي يكاد يقوض قامتي النحيلة المقوسة، ولا مقاومة جدية كالأيام الخالية. ماريانا، عزيزتي ماريانا، أرجو أن تكوني بمعقلك التاريخي... وعلى دنياي السلام. لم يبق إلا القليل، والدنيا تذكر في صورة غريبة للعين الكليلة المظللة بحاجب أبيض منجرد الشعر. ها أنا أرجع إليك أخيراً يا إسكندرية. ضغط على جرس الشقة بالدور الرابع. فتحت شراعة الباب، فتحت شراعة الباب لنا وجه ماريانا، تغيرت كثيراً يا عزيزتي. ولم تعرفني من الطرقة المظلمة. أما بشرتها البيضاء الناصعة وشعرها الذهبي فقد توهجا تحت ضوء ينتشر من نافذة بالداخل، بنسيون ميرامار؟ نعم يا فندم! أريد حجرة خالية".


عصر الحب

عصر الحب
لكن من الراوي؟ ألا يحسن أن نقدمه بكلمة؟ أنه ليس شخصاً معينا ًيمكن أن يشار إليه إشارة تاريخية، فلا هو رجل ولا امرأة، ولا هوية ولا اسم له، لعله خلاصة أصوات مهموسة أو مرتفعة، تحركها رغبة جامعة في تخليد بعض الذكريات، يحدوها ولع بالحكمة والموعظة وتستأسرها عواطف الأفراح والأحزان، ووجدان نأساوي دفين، وعذوبة أحلام يعتقد أنها تحققت ذات يوم. إنه في الواقع تراث منسوج من تاريخ ملائكي ينبع صدقه من درجة حرارته وعمق أشواقه، ويتجسد بفضل خيال أمين يهفو إلى غزو الفضاء رغم تعثر قدميه فوق الأرض الأليفة المتشققة التربة وثغراتها المفعمة بالماء الآسن. وأنى إذا أسجله الراوي وبنص كلماته فإنما أصدع بما يأمر به الولاء، وأنفذ ما يقضي به الحب، مذعناً في الوقت نفسه لقوة لا يجوز المجازفة بتجاهلها.


هناك تعليقان (2):

  1. عين البيضاء بحاجة إلي مثل هذه المدونة
    دائما أنت رائع أخي بركات
    سليم محمود

    ردحذف
  2. من قال أنك تقاعدت أخي عبد الوهاب
    أنت في قمة العطاء
    دمت لعين البيضاء
    ع عبد الكريم

    ردحذف