الأحد، 1 أبريل 2018

دار سبيطار.....محمد ديب




المجمع السكني "دار سبيطار" الذي يضم مجموعة كبيرة من السكان معظمهم من الفقراء الذين لا يجدون قوت يومهم، وضمن هذا
التجمع تدور أحداث الرواية "الدار الكبيرة" بطل الرواية الطفل عمر الذي لا يتجاوز الاثني عشر عاما، وأمه "عيني" التي تكافح
لكي تطعم ولدها وابنتاها









يتناول الكاتب أوضاع المجتمع الجزائري من خلال تناول الأشخاص في هذا المجمع السكني وكيف كانوا يعيشون 
ويفكرون ويتعاملون مع بعضهم البعض ,  واقع الإستيطان الإستعماري شديد الوطأة على الشعب , حيث أن هذا 
الإستعمار يتعامل مع المواطنين معاملة دونية  
من هنا تكون المشاعر الوطنية حية لكنها لا تظهر علانية، وذلك بسبب القسوة التي يعامل بها ..المحتل المواطنين، فها هو الأستاذ حسن يتخطى حاجز المحذور ويتكلم للطلاب بالعربية
المحذورة، موضحا لهم بان وطنهم ليس فرنسا "ـ
المحتل المواطنين، فها هو الأستاذ حسن يتخطى حاجز المحذور ويتكلم للطلاب بالعربية المحذورة، موضحا لهم بان وطنهم ليس فرنسا "ـ

وهكذا لم يعلم الصبية ما هو وطنهم" ص25، الصراع بين قول الحقيقة والصمت كان يشكل هاجسا عند المعلم، من هنا قال شيئا ولم يجرؤ على إكماله، وهذه مسألة في غاية الخطورة، لكن القليل الذي قدمه للطلاب جعلهم يعيدوا التفكير فيما يدرس لهم، وهذا كافا، إذا ما أضيف له المعاملة السيئة التي يتلقها المواطنون من المحتل.
فهنا طرح الكاتب بان الأستاذ حسن إنسان يشعر بالخوف وأيضا بالرغبة في التحرر من قبضة الاحتلال وتعاليمه المزيفة، فشخصيات الرواية هي بشرية وليست (سوبر) وهذا ما جعلها اقرب إلى الواقعية، فالرواية هي واقعية بامتياز، لا يوجد فيها إي رمزية ، كما أن أحداثها اقرب إلى الوقائع التاريخية، التي عانى منها الشعب الجزائري.


الرجل السلبي
الكاتب قدم لنا صورة الرجل السلبي، فمن خلال حديث النساء العاملات والمكافحات في سبيل لقمة العيش عن الرجال، كان يصفهم بشكل شبة دائم بالتخاذل والتقاعس وعدم الأقدم على العمل، فها هي "عيني" تتحدث لولدها عمر عن والده بصورة تحمل الحنق والقهر والبؤس، ليس على الوالد وحسب بل على الأوضاع والاستعمار أيضا "ـ هذا كل ما تركه لنا أبوك، ذلك الرجل لا يصلح لشيء، ترك لنا البؤس، غيب وجهه في التراب، وسقطت علي جميع أنواع الشقاء، ... هو الآن هادئ في قبره.. لم يفكر يوما في ادخار قرش واحد.. وها انتم تتشبثون بي كالعلق الذي يمتص الدم ... لقد كنت غبية .. كان ينبغي أن أترككم في الشارع، أن اهرب إلى جبل خال مقفر" ص30، من خلال هذا الكلام نستدل على الحالة المزرية التي تعيشها العائلة، فلا معيل لها سوى المرأة، هي من يوفر الاحتياجات لها، ورغم تواضع هذه المتطلبات وقلتها إلا أن من يستطيع في ظل الاحتلال أن يجلب رغيف الخبز يكون قد أنجز أمرا عظيما.
لم تكن الأم "عيني" تكلم ولدها بهذه الكيفية فقط، بل أيضا تكلمت مع أمها "الجدة" بطريقة اشد وأكثر قسوة، وكأنها ليست ابنتها، بل امرأة من خارج العائلة، "كانت عيني منتصبة على ركبتيها تقذف حقدها في وجه الجدة .. 
ـ ليت الموت يأخذك. لماذا لم ترفضي أن يحملوك إلى هنا؟ 
ـ ماذا كان بوسعي أن افعله يا ابنتي؟
ـ امرأته هي التي أرسلتك إلي، انه مستعد لان يلعق قدميها، أنها هي من تعمل لتطعمه، أما هو فيقضي وقته في التسكع بين المقاهي .. ابن الكلب .. " ص31، صورة أخرى عن الرجل المتعالي على زوجته، القاعد مع القاعدين، بلا عمل أو فعل مفيد، يترك زوجته تعمل. "عيني" تتناول الرجال ـ الزوج والأخ ـ بسلبية، وكأن الرجال في المجتمع الجزائري إبان الاحتلال لم يكونوا يصلحوا إلا للجنس فقط، فهم كسالى أتكالين لا يعملون.
ومع هذا الواقع غير السوي تحمل "عيني" أفكار المجتمع ألذكوري بامتياز، فهي كامرأة شرقية تفكر بان السيادة يجب أن تكون للرجل، رغم أن الواقع يفند هذه الأفكار، فمن خلال زوجها الذي مات دون أن يترك لها قرشا واحد، إلى أخاها القاعد والمتواكل على زوجته، إلى رجال المجمع السكني، الذين لا يصلحون لشيء، ومع كل السلبيات تفكر بالرجل القادم، ابنها عمر، "متى يكبر عمر، ابنها، فيحمل عنها بعض هذا العبء؟ البنت لا يمكن الاعتماد عليها. وإنما يجب إطعامها، حتى إذا شبت عن الطوق أصبح واجبا أن نراقبها مراقبة دقيقة، فهي في سن البلوغ أسوأ من حية، فما أن تغفلي عنها قليلا حتى ترتكب الحماقات. ثم لا بد لك أن تقصدي عروقك حتى تهيئي لها جهازا قبل أن تتخلصي منها" ص72، رغم أن أبطال الرواية هن من النساء، لا أن السرد يؤكد بان أفكار المجتمع ألذكوري الأبوي هي المسيطرة، فهل هذا مقصود من الكاتب؟ أم انه وقع في خلط ـ السرد ـ ولم ينتبه لا إن المتحدث امرأة، فكان لا بد من أن تحمل أفكارها وليس أفكار المجتمع؟
اعتقد بان الرواية الواقعية ترسم الواقع كما هو مع إضافة التحسينات والصور الأدبية والفنية، من هنا كان الكاتب يصر على إعطائنا صورة واقعية عن المجتمع الجزائري والطريقة التي يفكر بها، فهنا كانت المرأة ليست أكثر من منتجة، لا لكنها غير متحررة فكريا، من هنا وجدنها أسيرة المجتمع وأفكاره.
الطفل في ظل الاحتلال والجوع
الأطفال في ظل الاحتلال يكون أكثر من غيرهم عرضة للقمع والسوء المعاملة، إن كانت من المحتل نفسه، أم من الأهل، الذين يعتبرون أطفالهم المتنفس لهم، فتنعكس حالة القمع التي يعانون منها في سلوكهم مع أطفالهم، فنجدهم يفرغون كل الكبت والقهر على هؤلاء الأطفال، وكأنهم ـ الأطفال ـ هم من يقوم يقمع الأهل وليس الآخر المحتل، كما إن الأطفال بطبيعتهم البسيطة يرفضون القمع والاضطهاد مهما كان فاعله، وأيا كانت دافعه، من هنا يقوم عمر بالتمرد على حالة القمع التي تمارسها أمه "عيني" على الجدة فيثور عليها قولا وفعلا، متجاهلا بان من يثور عليها هي أمه، "وهرب. فأسرعت تركض وراءه، لكنه اجتاز فناء البيت بوثبة واحدة..
ـ اخرسي يا ... عاهرة
... ـ يلعن أبوك، يا ملعونة، تلعن أمك.." ص33، اعتقد بان حالة الاجتماعية والاقتصادية وما تشكله من أفكار ومفاهيم عند الأفراد مسألة تلعب دورا حيويا في السلوك، فعمر الذي يعاني الجوع والقهر والفقر وفقدان الأب، لا بد أن يكون بهذه القسوة اتجاه أمه، فهي من خلال معاملتها القاسية للجدة جعلت مشاعر ابنها عمر تتأجج، فهي لم تكن ضد الأم ولكنها ضد سلوكها السيئ.
فبعد أن يغادر البيت تبدأ مشاعر الطفولة تتحرك فيه، ويأخذ في طرح النواقص التي يعاني منها كانسان وكطفل "كان في تلك اللحظات يتمنى لو يعثر على أبيه، أبيه الميت، ولكن الحقيقة التي اكتشفها كانت لا تطاق، أن أباه لن يعود أبدا ألبه، ما من احد يستطيع أن يرد إليه أباه" ص33، حالة الطفل في الحضيض، فكريا وواقعيا، بلا مأوى، جوع، برد، الخوف من القمع والضرب، الحرمان من الأب، كلها تجتمع في حالة عمر، فهو هنا لا يشكل حالة الطفل العادي، بل الطفل غير العادي، الطفل الذي يعيش في ظل الاحتلال والواقع الاجتماعي المتخلف والفقير في ذات الوقت.


صورة الشرطي
لعل الكثير من الأعمال الأدبية، إن كانت رواية أو قصة أو مسرحية أو قصيدة، في مجملها تقدم الصورة السلبية لرجال الشرطة، فهم باستمرار يشكلون أداة القمع والبطش التي تعمل بالناس الشر والقهر، وأقولها بتواضع بأنني لم اقرأ نصا يحمد هؤلاء القساة أبدا، من هنا سنجد حالة طبيعية أن يقدم رجال الشرطة في ظل الاحتلال بصورة سلبية، فها هو الطفل عمر يصاب بالرعب لمجرد أن ذكروا "ـ الشرطة .. الشرطة .. ها هم الشرطة..
وقال بينه وبين نفسه : "ماما" أتوسل إليك، لن اضائقك بعد الآن، احميني، احميني.. تمنى في عنف وحرارة أن تكون أمه "عيني" إلى جانبه" ص38، حالة من الرعب يعاني منها عمر، فهنا الطفل يعكس لنا صورة الرعب التي أوجدوها رجال الشرطة في ذهنه، فهم من خلال سلوكهم القاسي تركوا هذا الإرهاب في الأطفال والمجتمع ككل، "أن رجال الشرطة ينبشون الأوراق التي كان حميد سراج قد جمعها عند أخته، كانوا يجمعون هذه الأوراق، ومن اجل ذلك قلبوا الغرفة عاليها سافلها" ص42، هكذا هم رجال الشرطة، أداة التخريب والتكسير والتحطيم، ويقومون بضرب الناس واعتقالهم، من هنا لا يوجد لهم لا الصورة السلبية، خاصة في المجتمعات التي تعاني من الاحتلال والتخلف.
وها هي فاطمة أخت حميد سراج تقول متحسرة على أخيها، الذي سيكون تحت التعذيب الجسدي والنفسي عند المحتل "ويلي عليك يا أخي .. ما الذي سيقع لك؟ .. ما الذي سيصنعونه بك؟ .. ويلي عليك يا أخي .." ص42، أعمال القمع والاعتقال تترك أثرا بليغا في الشخص المعتقل وزوجته وأبنائه وجيرانه وكل من يشاهد عملية الاعتقال، من هنا تركت هذه العملية أثرا لا يمحى من ذاكرة الطفل عمر، الذي يمثل خلية نشطة، تتأثر ـ سلبا أو إيجابا ـ بكل ما يشاهد ويسمع، "كان عمر حائرا لا يعرف كيف يمكن أن يقدم معونة ما، رجال الشرطة يملأون الدار الكبيرة بحركتهم، ترى متى يذهبون... أصبح عمر لا يطلب قطعة الخبز مغموسة في الماء العين، حين تنصب علينا الكوارث، نذهل عن الجوع، أصبح عمر لا يفكر، لقد تضامن جوعه ـ أصبح جوعه الآن بعيدا، لم يبقى منه فيه إلا ما يشبه غثيانا غامضا لا يهدأ.
اصابه دوارا، كان يمضغ لعابه ويبلعه، أن هذا يولد في نفسه ميلا غريبا إلى القيء، انه لا يجد في نفسه إلا فراغا" ص42 و43، حالة الغثيان تصيب المحبط الخائف غير القادر على الفعل، مهما كان هذا فعل، عمل أو قول.
شدة القمع والقهر والخوف تسبب حالة الغثيان، ذروة الخوف تقع ليس على المعتقل وإنما من شاهد عملية الاعتقال، فما بالنا بأهل المعتقل والمعتقل نفسه!

الطرح الطبقي
في حالة الاحتلال لا بد أن يكون هناك الجوع والفقر هو الطاغي على المجتمع، من هنا لا بد من وجود من يقدم البديل لها الوضع، البديل الذي يبحث في تقديم الحياة الكريمة للمواطن، وتحقيق سبل العيش التي تمثل ابسط الحقوق للإنسان،ة"إن العمال الزراعيين أصبحوا لا يستطيعون أن يعيشوا بهذه الأجور الزهيدة التي يتقاضونها ... يجب أن نتخلص من هذا البؤس .. العمال الزراعيون هم أولى ضحايا الاستغلال الذي يعبث في بلادنا فسادا" ص94، المسألة الاقتصادية من أهم المسائل التي تشغل الأفراد والجماعات، من هنا قدمها محمد ديب بكل وضوح، إن كان من خلال السرد الروائي الذي يعطي مدلولا واضحا عن الحالة الاقتصادية البائسة أم من خلال كلمات الخطيب الذي تحدث بكل صراحة عن الواقع المزري


فكرة الخلاص "القادم من الخارج"
عند العديد من المجتمعات التي تعاني القهر تفكر بطريقة غير سوية، فهي تتجاهل دورها في تحرير ذاتها، وتنتظر القادم من الخارج كي يخلصها مما هي فيه، فهناك فكرة يتداولها بعض الفلسطينيين بان خلاصهم سيكون من جهة الشرق، أن هذا المخلص سيجمع الأمة ويقتل الأعور الدجال، فهنا نجد دعوة بطريقة غير مباشر للانتظار والترقب لقدوم هذا المخلص، وهذا ما فعله الشعب الجزائري إبان الاحتلال الفرنسي، فهم تشبثوا بالقادم الخارجي وجعلوا منه مخلصا "إن هذا الرجل الذي اسمه هتلر قوي قوة هائلة لا يستطيع احد أن يقيس نفسه بقوته، هو ماض يستولي على العالم كله، وسيكون ملك العالم كله، وهذا الرجل يبلغ هذا المبلغ من القوة صديق للمسلمين فمتى وصل إلى شواطئ هذه البلاد أدرك المسلمون كل ما يتمنون، وحظوا بسعادة كبرى، انه سيحرم اليهود من أملاكهم، فهو لا يحبهم، ولسوف يقتلهم، سيكون حامي الإسلام، وسيطرد الفرنسيين، ثم أن الحزام الذي يشد جسمه قد كتب عليه :لا اله إلا الله محمد رسول الله" ص136، التخلف لا يقدم إلا الأفكار المتخلفة، في هذا المشهد الذي تكرر في العراق والسودان واليمن وليبيا وسوريا وكل من راهن على المحرر الخارجي، لا ندري لماذا نحن في المنطقة العربية دائما كنا نتعاطى مع مسألة الخلاص من الظلم أو الاحتلال بالخارج وليس فينا نحن؟ هل تركيبتنا الفكرية هي السبب، أم أن الإيمان له علاقة بهذا الأمر؟

الحبكة والسيطرة على الحدث الروائي
في بداية الرواية ينحدث الكاتب عن الجدة وكيف أنها تشكل عبئا اقتصاديا على "عيني" او على أخيها، لكن في زخمة الاحداث الروايئة ينسى الكاتب هذه الجدة، ويعود الى تذكرنا بها في نهاية الرواية، فالكاتب كان قد نسى شخصبة الجدة لكنه تدارك الامر في النهاية، في المجمل تكمن اهمية مثل هذه الأعمال في تقديمها مادة أدبية بمضمون تاريخي، مما يعطي المتلقي صورة حية عن تلك الفترة من الزمن.

الثلاثاء، 20 فبراير 2018

القصبة....عند الشاوية




يحظى النّاي بمكانة هامة في الموسيقى الشّاوية خاصة التقليدية منها، عكس العصرية أين وظفها عدد قليل من المطربين، خاصة المغني الملتزم عميروش، والمغني الشاب سامي يوراس، تحديدا في أغنيته «أبريذ الغربث»، أي طريق الغربة. لنغمة الناي وقع خاص على الإنسان الشاوي، فهي تذكّره بأعراس الصبا وأمكنة عاش فيها وسكنت وجدانه، وهي أصدق معبّر عن آماله وخيباته. وقد اختارت الكاتبة المرحومة زليخة السعودي «عازف الناي» عنوانا لأحد نصوصها.








من أشهر العازفين على الناي التقليدي محمد بن الزين، رفيق درب – صاحب رائعة «أكر أنوقير» أي قم لنمشي – المرحوم عيسى الجرموني الحركاتي، وسعيد نيسة، عازف المطربة المغتربة حورية عيشي، أما الناي العصري، فلابن قرية تاغيت بولاية باتنة «زوزو»، تجربة مميزة مع المطرب عميروش، هذا الأخير له أغنية بعنوان «أدّمام أباب أو جَواق»، أي «رجاء يا صاحب الناي». تعود المكانة التي يشغلها الناي في الأغنية الشاوية إلى جغرافيا الأوراس الصعبة (تضاريس، مناخ..)، وإلى ما دفعه أبناء هذه المنطقة من ثمن باهظ أثناء مقاومتهم لمختلف قوى الظلام التي احتلت بلاد المغرب الكبير من الرومان إلى الفرنسيس.





حول تاريخ الناي، يوضح الشّاعر والمترجم عادل سلطاني بأن: «..الناي من حيث تاريخيته آلة موسيقية أمازيغية بشهادة الإغريق أنفسهم، ويعتبر إبداعا ليبيا أمازيغيا خالصا وأول من عزف عليه ـ حسب شهادتهم هذه ـ هو سِرْتِسْ الليبي، والناي حسب ذات الشهادة التاريخية دائما ارتبطت تسميته لدى هؤلاء بالليبي، أين اقتبسوا أشعارهم المطوّلة من الليبيين الأمازيغ الذين أثَّرُوا تأثيرا كبيرا في عاداتهم من ملبس وشعر وعزف، وغير ذلك من مظاهر عبادية تعجّ بها أساطيرهم، والناي الذي نطلق عليه بلساننا الشاوي الأوراسي آجَوَاقْ، يمثل لي ولغيري من العارفين به إبداعا أسلافيا شاويا بامتياز، ارتبط بحياة الشاوي البسيطة في الحواضر كما البوادي، ملازما لهم في أفراحهم وأتراحهم، في حلهم وترحالهم، معبّرا بقوة عن العواطف التي تجيش في الصدور، لن يعبر عليها بلسان الحال إلا هذا الصديق الذي اخترعه أجدادنا ليقول الكينونة بكل وضوح وصدق، وتحضرني في هذا السياق قصة سجلها القرن المنصرم، حينما تحكي قصة القصبة آجواق، تلك الآلة التي دفنها الخل الودود، الذي كان ملازما للأسطورة المرحوم عيسى آجرموني، ليخلده التاريخ أيضا أسطورة للوفاء، بعد أن فارق صاحب الحنجرة الماسية التي لا تصدأ الحياةَ، ملتحقا بالرفيق الأعلى، معبرا بدفنها عن الوفاء ليقف التاريخ منتهيا هناك عن العزف بعد رحيل الخل ليشد الرحال بعد هذا الفعل الأبيض إلى الحج ، وأما ما يمثله لي باختصار شديد هو فلسفة الحزن التي تعلمتها من ناي أبي رحمه الله».


وحول سؤال: ماذا يميّز هذه الآلة عن غيرها من الآلات الموسيقية؟

يجيب شاعر بئر العاتر بولاية تبسة قائلا: «هو التصاقها بحياة الشاوي، أين تمثل قيمة ثقافية إبداعية مضافة، تبصم الجو الاجتماعي الأوراسي العام، مشكلة بذلك أيقونة للفرح كما الحزن، حاملة للشجى والشجن والمواجد وللفرح أيضا، وعرسية الحياة والإقبال على البهجة، أين يبصم الوجود الاجتماعي بما يمكن لي أن أسميه هنا بـــ : «عيدية الوجود على مستويي الأنا والنحن»، ونظرا لِقِيمِيَّتِهَا دخلت هذه الآلة مجال الأحاجي العامية الشاوية : «عْلَى اللِّي بَقُّوهْ سَبْعْ بَقَّاتْ هَزُّوهْ تْكَلِّمْ حَطُّوهْ مَاتْ»، هذه الآلة النفخية العجيبة المبتدعة بحس أسلافي راق، حملها يعني الحياة والكينونة والوجود، وتركها يعادل الموت والفناء، فهي كينونة متحركة مفعمة بالنشاط، الذي يعكس حياة الأوراسي، بل تتعدى ذلك فهي روحه الأخرى المنبعثة في حالتي الحزن والفرح، حين احتكاك الهواء المنبعث من الروح على جدرانها الأسطوانية الملساء، المشبعة بزيت شجرة مباركة، تتحكم فيه أنامل فنان مبدع، تتلمذ على خلجات أسلافه الدافئة الصادقة».

الأناشيد الوطنية



كلّ نشيد وطني لأي بلد هو في الأصل قصيدة حماسية تعبّر عن انتماء وهوية قومية.
ووظيفة النّشيد الوطني قبل كلّ شيء هي تمثيل الأوطان في المناسبات الرّسمية، المحلية منها والدولية.
ولكل نشيد في الواقع قصّة تحكي ميلاده والظّروف السياسية والتّاريخية التي كتب فيها، كما نجد أغلب الدّول تقرن نشيدها الوطني بشعار وراية رسميتين ترمزان لهويتها وأصالتها.
النّشيد الهولندي.. الأقدم في العالم
تاريخيًا فإن النّشيد الوطني بمفهومه الحديث الشّائع الآن، أصله ديني محض، فقد وُلد في الكنائس قبل أن يأخذ طابعه المدني الرّاهن رغم وجود استثناءات قليلة، على غرار النشيد الوطني المجري الذي نظرًا لطابعه الدّيني دفع الاتحاد السوفياتي سابقا إلى إلغائه.
ويعتبر النّشيد الوطني الهولندي الذي وُلد مع الإصلاح البروتستانتي ضد المذهب الكاثوليكي، من أقدم الأناشيد الوطنية في العالم، حيث تمّ تأليفه ما بين 1568 و1572 ويسمى«Het Wilhelmus». غير أن الغريب في الأمر أنه لم يصبح رسميا إلا سنة 1932.
أما أحدث نشيد وطني في العالم فهو نشيد دولة جنوب السودان الفتية، حيث تم اعتماده رسميا عام 2011 ويحمل عنوان “يحيا جنوب السودان”!.
وفي الواقع عرفت الأناشيد الوطنية لعدة بلدان مسارات مختلفة في تاريخها، إذ على سبيل المثال نجد النشيد الوطني الياباني “ملكتكم، Kimi ga yo”، الذي كتبه شخص مجهول يعتبر قديما جدًا هو الآخر، فقد كتب حوالي القرن الثالث عشر وتم تلحينه عام 1880 لكنه لم يصبح رسميا إلا في سنة 1999. وهو أقصر نشيد وطني على الإطلاق، حيث يحتوي على خمسة مقاطع شعرية فقط!
القدس.. نشيد وطني لبريطانيا!
والنشيد الوطني الإيطالي لم يصبح رسميا هو الآخر إلا سنة 2005 رغم اعتماده شكليا عام 1946.
والطّريف أن أغلب ألحان الأناشيد الوطنية في أمريكا اللاتينية مقتبسة من موسيقى الأوبرا الإيطالية، والنشيد الوطني البريطاني(المفترض) – ونقول مفترض لأن بريطانيا ليس لها نشيد وطني “رسمي !” – كُتب من طرف مجهول عام 1770 لكنه لم يعزف “رسميا” إلا بعد مضي خمس سنوات. مع التذكير أنه يطلق عليه اسمين “ليحفظ الرب الملكة” و”ليحفظ الرب الملك”!
كما يوجد في هذا البلد الأوروبي نشيد وطني آخر مفترض ومفضل من طرف 55 في المائة من البريطانيين – حسب استفتاء البي. بي. سي – وهو “أرض الأمل والانتصار” الذي يعزف أحيانا في المناسبات الوطنية ومن طرف بعض فرق الروغبي، كما يوجد نشيد وطني ثالث لبريطانيا يحمل عنوانا ملفتا للغاية ويقصدون به بريطانيا وهو.. القدس!
وبالنسبة للنشيد الوطني الفرنسي “لامارساييز” فقد كُتب عام 1792 من طرف “روجي دو ليل”، ولم يتم اعتماده رسميا إلا في عام 1795. وقد اتهم ملحنه بأنه ارتجله وعليه فهو في نظر النّقاد فنان غير محترف! أما النشيد الوطني الصيني فقد اعتمد مؤقتا عام 1949 قبل أن يأخذ طابعا رسميا عام 1982.
ويبقى الغريب في الأمر أن بعض الأناشيد الوطنية لم تكتب باللغة الرسمية للبلد الذي تمثله، بل بلغات أخرى مختلفة وبعضها ميت، كما هو الحال مع النشيد الوطني للفاتيكان الذي كتب باللغة اللاتينية!
ومن أطرف الأمثلة في هذا الموضوع نذكر النشيد الوطني الباكستاني الذي كتب باللغة الفارسية، رغم أن اللغة الرسمية لهذا البلد هي الأوردو، والنشيد الوطني لأنغولا كتب باللغة البرتغالية والنشيد الوطني لموزمبيق وغينيا الاستوائية كتب باللغة الإسبانية، والنشيد الوطني لمالي والكاميرون باللغة الفرنسية، ونشيد ناميبيا كتب باللغة الإنجليزية مثله مثل النشيد الوطني لدولة جنوب السودان الذي ألفه مجموعة من الطلبة، والنشيد الوطني لسنغافورة كتب بلغة مالاوي (سنغافورة لها أربع لغات رسمية) والنشيد الوطني الهندي كتب بالسنسكريتية القديمة.
كما أن هناك من الأناشيد الذي كتب باللغات الرسمية للبلد مجتمعة، على غرار سويسرا المكتوب نشيدها الوطني بالألمانية والفرنسية والإيطالية والرومانشية، والنشيد الوطني البلجيكي المكتوب بثلاث لغات هي الرسمية لهذا البلد، والنشيد الوطني لجنوب إفريقيا الذي يعتبر بحقّ أغرب نشيد وطني في العالم، كونه مكتوبا بخمس لغات من بين الإحدى عشرة لغة رسمية للبلاد!
وإذا كان النشيد الوطني لأي بلد من المفروض منطقيًا أن يكتبه شاعر كبير أو معروف فإن عدة أناشيد وطنية دونت بأقلام رؤساء، على غرار ليوبولد سنغور الذي كتب نشيد السينغال، والبوركيني كتبه الرئيس توماس سانكارا ونشيد إفريقيا الوسطى كتبه الوزير الأول بارتيليمي بوغاندا، ونشيد الغابون كتبه رئيس البرلمان أليكا داما..
لحن النشيد الإسرائيلي.. مسروق!
لكن هناك بلدان نشيدها الوطني عبارة عن معزوفة موسيقية بدون كلمات، على غرار النشيد الوطني للبوسنة، الذي أعتمد رسميا عام 1998 والنشيد الوطني الإسباني(رغم وجود أربع لغات رسمية في هذا البلد) ونشيد سان مارينو وكوسوفو، والنشيد الوطني المغربي، الذي لم تدوّن كلماته إلا سنة 1969.
ولا بأس في هذا السياق الإشارة إلى أن لحن النشيد الوطني الإسرائيلي (كتب كلماته شاب مجري سنه 22 عاما!) الذي يحمل عنوان “الأمل Hatikva” والموضوع من طرف صمويل كوهين هو في الأصل مسروق من لحن مولدافي(نسبة إلى مولدافيا)!
ومن الأناشيد الوطنية التي تخلوا أيضا من الكلمات، نجد النشيد الوطني للاتحاد الأوروبي، الذي اعتمد عام 1970 وهو في الحقيقة السيمفونية التاسعة لبيتهوفن التي تحمل عنوان “نشيد الفرح” ولم تكتب كلمات هذا النشيد طبعا تفاديا للحساسية الشديدة والحرب الخفية بين اللغات الأوروبية..

وإذا كان النشيد الوطني السينغالي ودولة إفريقيا الوسطى لحنهما فرنسي فإن النشيد الوطني التونسي لحنه سوري، والنشيد الوطني الجزائري “قسما”(في الأصل كان عنوانه “فاشهدوا”) والذي كتب كلماته الشاعر مفدي زكريا – الذي مات في المنفى بتونس إثر سكتة قلبية(عام 1970) بتاريخ 25 أفريل من عام1955(اعتمد رسميا عام 1963) – بدمه على جدران الغرفة 69 في سجن برباروس، بطلب من عبان رمضان والمتكوّن من خمسة مقاطع تمثل الولايات الخمس التاريخية (قبل إضافة الولاية السادسة في مؤتمر الصومام وهي منطقة الصحراء). هذا النشيد لحنه في الأصل جزائري هو محمد توري ثم التونسي محمد التريكي ثم المصري محمد فوزي، والأخير هو المعتمد الآن رسميا(أتساءل شخصيا عن الصلة بين لحن قسما الافتتاحي والحركة الأولى للحن السيمفونية الخامسة لبيتهوفن المعنونة “ضربات القدر”!). علما بأن الفنان محمد فوزي سجل حقوق هذا العمل في فرنسا، وهو ما يعني أن النشيد الوطني الجزائري هو الوحيد في العالم أجمع الذي تملك حقوقه دولة أجنبية تعتبر عدوة بالأمس!
وحسب سبر للآراء أجري عام 2016 في الدنمارك فإن 80 بالمائة من الذين مسّهم السبر(حوالي 2000 شخص) أكدوا أن “وان. تو. ثري فيفا لالجيري” هو النشيد الوطني الجزائري، و8 في المائة أجابوا بأن “دي. دي” أغنية الشاب خالد هي النشيد الوطني الجزائري!





مفدي زكرياء


النشيد الوطني الفرنسي متّهم بالعنصرية!
وقد قيل الكثير حول المقطع الثّالث من النشيد الوطني الذي يعاتب فرنسا ويذكرها بالحساب على ما اقترفته من جرائم غير إنسانية في حقّ الشعب الجزائري، وفي الحقيقة النشيد الوطني البرتغالي كان هو الآخر يتوعد المستعمر البريطاني بالقول ضد البريطانيين “Contra os bretões” قبل أن يغير المقطع إلى ضدّ المدافع “Contra os canhões“، ولكن لماذا لا ننتقد المقطع العنصري في النشيد الوطني الفرنسي “لامارساييز” الذي يصف الآخرين بأن دمهم نجس وغير نقي مثل دمّ الفرنسيين النبلاء: “‘Qu’un sang impur abreuve nos sillons’؟
وحسب المختصين فإن النشيد الوطني للاتحاد السوفياتي سابقا يعتبر من أجمل الأناشيد الوطنية وأكثرها فخامة وسحرا فنيًا، وقد كتب كلماته ألكسندر ألكسندروف عام 1944 واستمر إلى غاية سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، ثم استبدل بآخر كتبه ميخائيل غلينكا، غير أن فلاديمير بوتين أعاد عام 2000 استعمال النّشيد القديم، لكن بكلمات جديدة رغم المعارضة الشدّيدة من الروس خارج الوطن.
وبالنسبة للولايات المتحدة الند التقليدي للروس، فإن نشيدها الوطني الذي يعرف بـ”راية النجوم” قد تم اعتماده رسميا من طرف الكونغرس عام 1931 وهو أصلا قصيدة شعرية كتبها فرانسيس سكوت كي عام 1814.
وبالعودة إلى سيمفونية بتهوفن التاسعة” نشيد الفرح” التي اتخذها الاتحاد الأوروبي نشيدا رسميا له، نشير إلى أن هناك أناشيد وطنية لبعض الدول تعتبر من دون مبالغة استثنائية ومثيرة فعلا من ناحية مضمون عناوينها، مثلا نشيد سلوفينيا المسمّى “المُعالج”! ونشيد مولدافيا الذي يحمل عنوان “لغتنا” ونشيد جمهورية التشيك الذي يحمل عنوان “أين وطني؟” ونشيد السينغال بعنوان “الأسد الأحمر”!.
أناشيد بدون عنوان!
وهناك أناشيد وطنية.. بدون عنوان أصلا! كما أن هناك بلدان لها نشيدان وطنيان في وقت واحد، مثلما هو حال الدنمارك والنّرويج والسّويد وتايلاندا وزيلاندا الجديدة، وهناك دول تشترك في نشيد وطني واحد مثل اليونان وقبرص، ولا ننس بأن هناك أناشيد وطنية وضعت لتظاهرات رياضية وسياسية وثقافية وغيرها أشهرها في نظري الألعاب الأولمبية، ونشيد دول الاتحاد الإفريقي المعتمد رسميا عام 1999 ومنظمة الفرانكفونية، وحتى بعض المقاطعات على غرار بروتانيا ، والكيباك لها نشيدها الوطني هي الأخرى، والتي كانت على وشك الانفصال من كندا في استفتاء نظم عام 1995 ولم ينجح بفارق ضئيل جدا قدره 0.5 بالمائة من الأصوات فقط.. فتأمل.