سألني أبي ان كنت أرغب في مرافقته للمدينة لشراء الحذاء الجديد، وافقت طبعاً، وكنت أعلم أن أبي يسعد بصحبتي، ويأنس بوجودي الى جواره، أبي كان رجلاً بسيطاً وخجولاً.
في الحي القديم من المدينة بحثنا طويلا عن عنوان محل الأحذية الذي وصفه جارنا السيد كارلسون.
سرنا طويلاً، وبعد تيه وجدنا أنفسنا أمام محل كبير للاحذية، لم نصدق ما رأت أعيننا لحظة دخولنا المحل ذو الواجهات الزجاجية الجميلة اللامعة، كانت المرايا الصقيلة المذهبة الأطر تنتشر في كل ركن من اركان المحل، وعمال المحل من الجنسين بملابسهم الأنيقة يتنقلون بين الزبائن ويساعدونهم على اختيار الأحذية المناسبة، الزبائن ومعظمهم من النساء كانوا على درجة عالية من الأناقة، وتضوع منهم روائح العطور الثمينة.
تقدمت احدى البائعات منا وسألت أبي
- تريد حذاء لك سيدي ام لابنك؟
- لي انا، ابني حذاؤه ما زال جديداً كما ترين.- ما هو القياس سيدي؟
- لا أعرف، ولكني أريده حذاء بوكسكالف
- عفواً، هذه النوعية لا نبيعها هنا، ثمة ماركة مما هو معروض هنا ترغب في تجربته سيدي؟
- نعم، ماركة غير بوكسكالف التي ليست عندكم
كنت اعرف أن أبي لا يعرف أي اسم لأي ماركة أحذية.
خلع أبي حذاءه، وأخذت البائعة فردة منه لتعرف قياس قدمه.
ولاحظت أنا الفرق بين قدمي أبي الكبيرتين الخشنتين، وأقدام الزبائن الاخرين.
تأملت احدى السيدات وهي تدخل قدمين جميلتين ناعمتين بجواربها الحريرية الشفافة في حذاء بديع الصنع، ثم رأيتها تسد أنفها وتمضي مبتعدة في اللحظة التي خلع بها أبي حذاءه.
انا احببت دائماً رائحة ابي، دائماً ظننت ان كل رائحة من جسم ابي طيبة وطبيعية، رائحة أنفاسه.. رائحة اقدامه .. رائحة عرقه. صدمت ان ثمة من ينفرون من رائحة ابي ولا يخجلون من اظهار نفورهم.
احضرت البائعة لابي حذاء ليجربه، وضع ابي قدميه في الحذاء الجميل، وبدت ملامح السرور على محياه وهو يخطو بضع خطوات فوق السجاد الاحمر الثمين. وبدا واضحاً جداً ان الحذاء اعجبه.- كم ثمنه؟ سأل البائعة
- هذا الحذاء سيدي من ماركة معروفة، ولزبون خاص مثلك نبيعه بثمان وعشرين كروناً. كنت اعرف أن ابي لا يملك سوى عشرة كرونات، وان امكاناته المالية تسمح بشراء حذاء لا يزيد سعره عن ثمانية الى ثمانية كرونات ونصف.
ورايت ابي يخلع الحذاء الجديد ويرتدي مسرعاً حذاءه القديم.
وسمعت ونحن نغادر المكان احد الزبائن المتغطرسين يسأل البائعة متأففاً.
- كيف دخل هذا الى هنا؟
ولأول مرة وجدت في ضعف سمع أبي ميزة حسنة، اذ جنبته المزيد من الهوان بما جاء من تعليقات ساخرة من اولئك المتغطرسين. وفهمت يومها أن الاختلاف بين الفقير والغني ياخذ شكلاً هرمياً، يبدأ من القاعدة التي هي القدمين ونوع الحذاء....ويتنتهي بالقمة.... الراس ونوع القبعة التي نرتديها.
خرجنا من المحل، ورأيت على وجه أبي خيبة أمل واضحة لعدم حصوله على ذاك الحذاء الذي أعجبه، سرنا غير بعيد في سوق المدينة، فاذا نحن وجها لوجه أمام المحل الذي وصفه لنا السيد كارلسون، وهناك جرب أبي على عجل حذاء من نوع بوكسكالف الذي اقترحه جارنا، خلعه أبي وقال للبائع.
- انه صلب ويضغط على الأصابع بشكل مؤلم، ابتسم البائع وعلق قائلاً
- أنت تعرف يا سيدي أن كل الأحذية الجديدة تكون كذلك قبل أن تعتادها القدم.
أبي الذي كان قد جرب منذ قليل حذاءً جديداً رائعاً مريحاً لم يصدق ما قاله البائع، ومع ذلك فقد نقد البائع ثمانية كرونات ونصف ثمن الحذاء، وحمل حذاءه الجديد تحت ابطه بعد أن لفه البائع بأوراق صحف قديمة ومضى.
وفهم أبي وفهمت أنا أن أحذية الفقراء فقط هي التي تؤلم الأقدام حين تكون جديدة.
وما زالت ذكرى ذلك اليوم الذي اشترى فيه أبي حذاءً جديداً تحرك في نفسي كل مشاعر الكره لطبقية بغيضة تشمل حتى ما يرتدي الانسان في قدمه.
ايفار لو جوهانسن (1901 - 1990):