زهية منصر 18 octobre 2011, 12:47
"ليلة في واحدة من أسوإ مدن العالم" قد يبدو هذا عنوانا جيدا لقصة أو رواية أو حتى فيلم سينمائي يمكن أن يرشح لجائزة محترمة، غير أن واقع العاصمة الجزائرية ليلا قد يحيلنا إلى أكثر من قصة ورواية تستحق أن تحول إلى رائعة سينمائية بامتياز.. طرقات خاوية..
أكوام من القمامة تحاصر مداخل العمارات والبنايات وتنتشر في شوارعها الرئيسة.. لا فنادق لا نقل ولا حياة وكأننا في حرب.. في الليل تختفي مظاهر الحياة الطبيعية وتبرز مظاهر الحياة المتوحشة للزوايا الخلفية لمدينة يقال إنها عاصمة البلد. ربما هذا ما أهّل مدينة الجزائر لتكون في المرتبة ما قبل الأخيرة ضمن 140 مدينة في العالم.. يسهل فيها العيش حسب مجلة "ذي اكونوميست" البريطانية التي صنفتها في المرتبة ما قبل الأخيرة قبل مدينة هراري عاصمة زيمبابوي التي احتلت ذيل الترتيب، حيث تقاسمت عاصمة الجزائر المرتبة 138 مع مدينة دكا عاصمة بنغلاديش.
وقد تفوقت على العاصمة مدن كثيرة معروفة بزحمتها وفوضاها مثل القاهرة ولايجوس وكوت ديفوار، وقد اعتمدت مجلة "ذي اكونوميست" في تصنيفها جملة من المقاييس مثل تعقد الإجراءات الإدارية في الحصول على الوثائق، البيروقراطية والاكتظاظ الناتج أساسا على حشر كل الهيئات العمومية والإدارات والمرافق الدبلوماسية في مكان واحد وكذا النقص الفادح المسجل في حظائر السيارات، ويضاف إليها غلاء المعيشة،
ونقص المرافق الخاصة باستقطاب الأجانب، سواء كانوا سياحا أو مستثمرين.
لا أحد سيصدق أن المدينة التي تخلي شوارعها على الساعة الثامنة مساء وتموت فيها الحركة على الساعة العاشرة ليلا هي نفس المدينة التي عبرها القراصنة وفرضت سلطتها على سواحل المتوسط لقرون، وهي نفسها المدينة التي سحرت الفرنسيين حتى أطلقوا عليها اسم المدينة البيضاء وعملوا كل ما بوسعهم للبقاء فيها، وهي أيضا مدينة الإسبان والأتراك والبيزنطيين والرومان التي لم يبق من حضارتها غير أكوام الزبالة والخوف المنتشر عبر الزوايا.
سيدي يحيى.. حتى مملكة الأثرياء تنام باكرا
رغم أن الساعة لم تكن بعد قد غادرت العاشرة ليلا، لكن العاصمة كانت قد أغلقت جميع أبوابها ومقاهيها وانزلقت في سبات عميق بدت شوارعها خالية ومهجورة في صمت يثير المخاوف، على الطريق الرابط بين بن عكنون وحيدرة لم يكن شيء يثير الانتباه غير حواجز رجال الأمن بأضوائها الملونة تمارس روتينها المعتاد الأحياء الراقية في أعالي العاصمة نائمة مطمئنة، منظر المدينة جميل من بعيد تحت أحزمة الأضواء الملونة، وقد غطت الأنوار جميع عيوب النهار. من سيدي يحيى بدأنا جولتنا من هذا الحي الراقي الذي انتشرت حوله الحكايات، بعضها صحيح وبعضها يشبه الخرافة. فقبل أعوام لم يكن سوى رافد لوادي كنيس وغابة يقضي فيها حديثو العهد بالسياقة ساعات تعلم القيادة، قبل أن تقرر البلديات الإسلامية في عهد جبهة الإنقاذ بيعها بالسعر الرمزي، لهذا ربما غنى عنها بعزيز "دراهم بولحية بانوا في سيدي يحيى.." هذا الحي الذي استقطب الشباب الجزائري وفتح عهدا جديدا لما صار يعرف بمملكة الأثرياء الجديدة.. في هذا الحي توجد محلات لأغلب الماركات العالمية والمحلات التجارية الراقية التي قد يصل سعر إيجار أحدها إلى 30 مليونا شهريا مثل المانغو والصفا والمروة وزمزم، في هذه المراكز نجد وكلاء لأرقى الماركات العالمية، من العطور والساعات والألبسة.. مثل شانال وباكورابان وكريستيونديور وبيار كاردان وكانزو وآرماني وتريساري وبالزيليري، حكايات كثيرة تدور حول هذا الحي الذي تنسب له زوايا الظل ونفوذ رجال المال والسياسة في صناعة القرار بالعاصمة.. فقد سحب البساط من تحت "محمية الصنوبر" المعروفة في الأوساط الشعبية بالولاية رقم 49، فقد أضحت سيدي يحيى اليوم مملكة "البڤارين" كما يلقبها العامة من الناس، وهي كلمة تنسب إلى حديثي العهد بالنعمة والثراء الذين يحتسون قهوة بـ200 دينار أو زجاجة ماء بـ150 دينار خاصة إذا كان ذلك رفقة حسناوات قادمات من كل أنحاء البلاد، ورغم أن الخيال الشعبي ذهب بعيدا في أسطرت سلطة هذا الحي الذي تنسب إليه القرارات المهمة لرجال النفوذ المالي والسياسي في الجزائر، غير أن أبسط زيارة للشارع الرئيسي يعطيك انطباعا أنه لا يختلف عن أي حي من أحياء العاصمة، ينام على العاشرة ليلا، إذ لا نجد فيه أي مركز أو مكانا أو مرفقا يعطي الانطباع بأنه يؤسس لحياة ليلية في العاصمة، ماعدا المطاعم والمقاهي مثل "كابوجينو" و"أوثر بارك" التي يجتمع فيها أصحاب المال للسهر.
وهي ربما المقاهي الوحيدة في العاصمة التي يمكن أن تدخلها النساء براحة، أمام المقاهي تركن سيارات فخمة.. وأحاديث تدور هنا عن تجارة من نوع آخر تبدأ بالفتيات وتنتهي عند الكوكايين، لكنها تبقى للبسطاء مجرد حكايات شارع تنبت فيه المحلات والفيلات مثل الفطريات دون أي تخطيط عمراني أو رؤية تؤسس لمدينة حديثة خارج ثقافة البيتزا والوجبات السريعة التي اختصرت مظاهر الحداثة في هذا الحي أو المملكة في الاستهلاك بكل أنواعه.
ونحن نستعد للخروج من الشارع الرئيسي لسيدي يحيى نحو بئر مراد رايس اعترض مراهق طريقنا وهو يطلب منا بفضاضة تسديد مبلغ "الباركينڤ" رغم أننا لم نتوقف إطلاقا في المساحة المتاخمة للرصيف، ولم يكن لنا الوقت الكافي حتى نسأل الشاب عن الجهة التي قررت أن تجعل من المكان موقف سيارات وتمنحه حق استغلاله.. لكنه الواقع المر الذي يتكرر يوميا بالليل والنهار في عاصمة لا تعترف بالقانون.
المجرمون والمدمنون والشواذ يحتلون جمهورية الكارتون
شوارع العاصمة كلها تلبس ثوبا موحشا بالليل يجعل المارة يخشون الوقوف أو المشي، خاصة مع الأخبار الواردة يوميا عن عصابات إجرامية تتخذ من بوابات بعض العمارات المهترئة مقرات للنشاط الاجرامي واعتراض طريق كل من يجرؤ على المشي في شوارع العاصمة بعد الساعة العاشرة ليلا، وهي اللحظة التي يستلم فيها المجرمون والشواذ والمدمنون مفاتيح العاصمة ليقيموا جمهوريتهم إلى غاية الفجر.
بين بئر مراد رايس وسيدي يحيى نصب مجموعة من الشبان والمراهقون طاولات السجائر والكاوكاو وقد انفصلوا عن بعضهم في تجمعات.. البعض كان يدخن والبعض الآخر كان يثرثر.. بين الحين والآخر ترتفع قهقهات الشباب وتتبخر في الهواء الليلي الذي بدأ يتسرب منعشا. ونحن نهبط نحو ديدوش مراد الذي كان إلى وقت قريب يلقب "بقلب العاصمة" لا شيء يثير الانتباه هنا غير بعض المارة وبعض السيارات التي تقطع الليل متسربة وكأنها خائفة من شيء ما.. أمام مبنى سينما "ديبيسي" سابقا كانت أكوام من الأوراق تحترق في منظر يعيد إلى الذهن بعض كليشيهات الأفلام الهندية القديمة.. كانت "سينما الجزائر" وكأنها بيت أشباح.. عمال النظافة يقومون بأشغالهم المعتادة بروتين واضح على حافة الشارع المؤدي إلى البريد المركزي.. الطريق خال تماما والمحلات مغلقة.. وقد تحولت ساحة البريد إلى مرقد للمشردين الذين افترشوا قطع الكارتون وانخرطوا في سبات غير آبهين بما يدور حولهم.. نفس المنظر تكرر أمام حديقة صوفيا. حيث اختار زوار الليل كراسي الانتظار للنوم مقابل حاجز الأمن، ربما بحثا عن الراحة والأمان.
انعطفنا رأسا إلى شارع العربي بن مهيدي.. البناية الشامخة لمتحف الفن الحديث كانت ترثى فنا آخر يرسمه ليل شارع العربي بن مهيدي، وتمثال الأمير عبد القادر يشهد ميلاد جمهورية الكارتون التي أخذت في إقرار قانونها الليلي، لأن آخر فنادق المدينة كانت قد أقفل عند الحادية عشرة تماما. ونحن نعبر مقهى "ميلك بار" الواقع بمحاذاة مكتبة العالم الثالث كانت مجموعات المراهقين بدأت تغزو الشارع.. البعض كان يحمل أكياسا بلاستيكية أو زجاجات فارغة، لم تكن حينها الساعة بعد قد وصلت إلى الحادية عشرة ليلا، لكن العاصمة كانت قد بدأت فصلا من حياة أخرى، أبطالها شباب ومراهقون يسهرون على أكياس البلاستيك وقارورات "الزمبريطو". مع الاقتراب شيئا فشيئا من ساحة بور سعيد تتكاثر أعداد الشباب الذين انقسموا إلى جماعات اتخذت من ساحة المسرح الوطني فضاء لممارسة هواية الحرڤة الافتراضية، لأن الضحكات التي كانت تصدر منهم توحي أن آخرهم كان قد وصل إلى شواطئ إسبانيا بأمان، أما ساحة السكوار فقد تحولت ليلا إلى بورصة أخرى، أبطالها ليسوا بائعي الأوراق النقدية.
الساحة التي تتنازل مؤقتا عن لقب البورصة، تحولت إلى ملاذ للشواذ الذين كانوا يترصدون المركبات في حركات بدت جد طبيعية لسيارات الأمن التي كانت تقطع الطريق نحو ساحة الشهداء، التي تحولت هي أيضا لبورصة تنافس فيها فتيات في عمر الزهور في اصطياد المارة، أما أقواس ساحة الشهداء التي تكتظ نهارا بالبضاعة والسلع الفوضوية فقد تحولت إلى مزبلة عمومية لنفايات أسواق النهار وتجمع المشردين والمنبوذين الذين يحتمون بدفء المخابز ويستأنسون بحواجز رجال الأمن. تركنا ساحة الشهداء غارقة في القمامة وغادرنا نحو باب الوادي وما أدراك ما حي باب الوادي. من يصدق أن هذا الحي الصاخب والشاهد على أحداث مفصلية في تاريخ الجزائر.. هذا الحي الذي كانت لياليه بيضاء ما تزال آثارها ماثلة على الجدران في كتابات تصب لعناتها على الواقع التعيس.. قد فقد الرغبة في الحياة واستسلم للنوم مبكرا. على هذه الجدران تسقط الأقنعة وتفضح السياسيات المتعاقبة على هذه المدينة.. على إحدى الجدران قرأنا الجملة التالية "روما ولا نتوما" لم تكن مجرد شعار على جدار لكنها كانت تختصر تواريخ وأزمنة من السقوط في هذا الحي التاريخي.
في طريق العودة نحو ساحة أول ماي مررنا بشاطئ الكولونيل عباس، لم يكن شيء يثير الاستغراب.. بعض الحركات في الزوايا الخلفية للشاطئ.. كان السكارى يمارسون هوايتهم بأمان، فيما انهمك بعض المشردين في إعداد فراشهم على الرصيف المقابل للبحر قرب "السماكة" حيث تحولت محطة الحافلات إلى فندق مجاني، لم تكن محاولات بلال (مصور الشروق) في ترصد خطاهم وحركاتهم لاقتناص الصورة تلفت انتباههم، فقد واصل المشردون إعداد فراشهم والمجانين في الطواف بساحة السماكة، بينما المدمنون مستمتعون بعوالمهم. في ساحة أول ماي لم تتغير الصورة.. الحي غارق في سباته وأضواء مستشفى مصطفى باشا ترسل إشارتها من بعيد كعيون مسهدة جافاها النوم.
في الخروبة بمحاذاة فرع شركة تطهير العاصمة ومحطة النقل البري تترصد بنات الليل زبائنهن مع التركيز على أصحاب الفخامة الذين تدل عليهم سياراتهم.. من هنا تمر البنات القادمات من مختلف المناطق.. تستقبلهن محطة النقل البري من مختلف الأعمار والشرائح الاجتماعية.. غدرت بهن الظروف.. هاربات من البيوت.. ضحايا العنف والأوضاع الاجتماعية يتخذن من مراحيض المحطة صالونات لتبديل ثيابهن وتثبيت الماكياج ليخرجن بعدها لاصطياد الزبائن من الباحثين عن المتعة العابرة. الشارع المتفرع عن الشارع الرئيسي والذي يؤدي إلى القبة وحسين داي يتحول في هذا الوقت إلى محمية تسقط في قبضة المدمنين وقطاع الطرق الذين لا يتوانون في استعمال الأسلحة البيضاء للتهديد وممارسة حرفة النشل والسرقة..
عندما أكملنا تمشيط آخر أحياء العاصمة لم تكن بعد الساعة قد وصلت إلى منتصف الليل.. رغم ذلك فالمدينة كانت قد كشرت عن أنيابها وألغت آخر صفات الآدمية من قاموس شوارعها.. فهي لا تنام باكرا إلا لتستيقظ نزواتها أيضا باكرا.. مدينة قد يكون لها علاقة مع كل شيء إلا أن تكون عاصمة للبلد.