الثلاثاء، 15 ديسمبر 2020

ملك إنجلترا «المؤمن»....هنري الثامن



ملك ظل على كرسي الحكم البريطاني نحو 37 عامًا، جمع الكثير من المُتناقضات، فهو الملك المُثقف واسع
 الاطلاع، الذي له اهتمامات خاصة بالأسلحة والدروع إضافة إلى رومانسيته وحُبه للنساء وكتابته للشعر، ذلك الحب الذي قادّه للزواج ست مرات، والذي قاد إنجلترا للتحول من الكاثوليكية إلى البروتستانتية، لكي يتمكن من الانفصال عن زوجته الأولى والحصول على الثانية، التي عشقها قبل الزواج وضاق ذرعًا بها بعده؛ ليعدمها بعد ذلك، الزوجات الستة أصبح مصيرهن: مُطلقتان، واثنتان حكم عليهما بعد اتهامهما بالخيانة، وأخرى توفيت بعد الولادة، أما السادسة فقد توفي عنها، هذا هو الملك هنري الثامن

 اهتمامات الملك المتنوعة.. حب للقراءة واللغات والنساء 

 

هنري الثامن هو الابن الثاني للملك هنري السابع، وقد ولد في 28 جوان عام 1491، وبعد وفاة أخيه الأكبر آرثر عام 1502 أصبح هنري وريث العرش الإنجليزي، بعد وفاة أخيه بنحو سبعة أعوام تحديدًا في عام 1509 توفي الملك هنري السابع، وهنا أصبح الابن الثاني البالغ من العمر 18 عامًا، والمعروف بحبه للصيد والرقص هو حاكم إنجلترا في عصر النهضة في القرن السادس عشر، وأُطلق عليه الملك هنري الثامن. وقد كان ملكًا مُثقفًا يجيد ثلاث لغات قراءة وكتابة (الإنجليزية والفرنسية واللاتينية) وكان يُحب القراءة أيضًا وحوى قصره مكتبة ضخمة، كما حظي في عام 1521 بلقب «المُدافع عن الإيمان» والذي منحه البابا ليو العاشر له بسبب كتابه الذي أكد فيه على سيادة البابا في وجه المُثل الإصلاحية للاهوتي الألماني مارتن لوثر. وبالإضافة إلى اهتمامات هنري الثقافية كان له اهتمام خاص بالأسلحة والدروع، والمبارزة بالسيف، والصيد، ومع تنوع اهتمامات الملك، كان يتميز برومانسيته وحبه للنساء، فقد كان يكتب قصائد الحب والأغاني طوال حياته ، وكان أيضًا يحب الأزياء الملكية ويهتم بالأناقة. بلغت الفترة الزمنية التي قضاها هنري في الحكم نحو 37 عامًا، سعى خلالها لإظهار نفسه حاكمًا قويًا ذا سُلطة مُطلقة لا تقبل المُعارضة أو التحدي، وهو ما جعل عصره يشهد أعدادًا كبيرة من قرارات الإعدام، قيل أنها قد وصلت إلى نحو 72 ألف حالة إعدام، تزوج الملك هنري الثامن ست مرات، وقد انتهت حياة بعضهن نهايات مأساوية زواجه من أرملة أخيه الزوجة الأولى هي كاثرين أراجون، وهي ابنة حاكم أسبانيا، والتي كانت أرملة أخيه، ففي نفس عام توليه للحكم تزوج من كاثرين، وقد دام زواجهما 24 عامًا لينتهي بالانفصال في عام 1533، وقد أنجب هنري من كاثرين ستة أطفال لم يستمر منهم على قيد الحياة إلا طفلة واحدة، أطلق عليها اسم «ماري الدموية»، بسبب عدد عمليات الإعدام البروتستانتية في عهدها، كان الملك يريد الابن الذكر، وقد أدرك أنه لن يحصل عليه من زوجته كاثرين، فبدأ يرى زواجه منها لعنة تُطارده، ويرى أنه لم يكن ينبغي عليه أن يتزوج من أرملة أخيه. اتخذ الملك هنري قرار الانفصال عن زوجته وفسخ الزواج، وهو القرار الذي عارضته الكنيسة الكاثولوليكية والبابا، مما أدى إلى قطع الملك لعلاقته مع كنيسة روما الكاثوليكية، وهو الأمر الذي اُعتبر حينها انضمامًا لحركة الإصلاح الديني التي كانت قائمة آنذاك، وتحولت إنجلترا إلى دولة بروتستانتية دفعة واحدة، وقد نفّذ الملك قرار الانفصال كما أراد، وتوفيت كاثرين بعد تفكك زواجهما بنحو ثلاثة أعوام. عشق قبل الزواج.. وإعدام بعده الزوجة الثانية هي آن بولين، تزوجها عام 1533، وانتهى زواجها من الملك بقرار إعدامها بعد الزواج بنحو ثلاثة أعوام فقط، بدأت قصة هنري الثامن مع آن بولين قبل زواجه منها بثماني أعوام، فقد كانت من بين حاشية الملكة كاثرين، وقع الملك في عشق بولين الفتاة الشابة الجذّابة، والتي رفضت أن تُصبح واحدة من عشيقاته، وأصرّت أن تُصبح هي الملكة، وربما كان هذا الأمر هو أحد الأسباب التي ساهمت في اتخاذ الملك لقرار الانفصال عن كاثرين، زوجته الأولى، كانت طقوس زواج الملك من بولين سرّية، ولكن سرعان ما تحقق لها ما أرادت وتوّجت ملكة بعد أن أصبحت حاملًا. لم يتحقق لهنري ما أراد، ولم يحصل على المولود الذكر، فقد أنجبت الملكة طفلة سُميت إليزابيث، والتي أصبحت فيما بعد الملكة إليزابيث الأولى، والتي يمكن القول إنها من أقوى وأنجح من تولى الحكم في تاريخ بريطانيا، كان لبولين الكثير من الأعداء، وكانت دائمة الجدال للملك، مما جعله يضيق بها ذرعًا، وزاد من هذا الأمر شعوره بعدم قدرتها على منحه المولود الذكر. جاءت نهاية بولين بأن جرى إعدامها في برج لندن، بعد أن وجهت لها تُهم الزنا والسحر والتخطيط لقتل الملك، وقد كان الحكم عليها بقطع رأسها بالفأس، لكن خُفف الأمر ليصير قطع رأسها بالسيف علنًا من قبل مبارز فرنسي. وبدلًا من استغلال لحظاتها الأخيرة في الدفاع عن نفسها، اكتفت بقول بعض الكلمات التي ظلت عالقة بأذهان كل مَن شاهدها قائلة: «الملك هنري لم يكن رحيمًا يومًا، لكن عندما يتعلق الأمر بي فهو أشدُ الناس رحمةً وعطفًا، فلقد كان رجلًا رائعًا». ثم مثلت لتنفيذ إعدامها بهدوء، كانت آن أول ملكة يجري إعدامها علنًا، وبعد حادثة الإعدام حظيت بتعاطف الكثيرين على الرغم من كره البعض لها قبل ذلك الزوجة الثالثة هي جين سيمور، والتي كانت إحدى وصيفات الملكة آن بولين، وقد خطبها هنري في اليوم التالي لإعدام آن بولين، وتزوجها بعد 10 أيام فقط، لكنها لم تحظ بحفل تتويج ملكة، ربما كان هنري ينتظر أن يرى إذا كانت سُتحقق حلمه في الوليد الذكر أم لا، وهو ما استطاعته جين بالفعل، فكانت هي الزوجة التي نجحت في ولادة وريث التاج، الأمير إدوارد، الذي خلّف والده لاحقًا في تولي العرش الإنجليزي باسم الملك إدوارد السادس جاءت ولادة جين مُتعسرة للغاية مما أدى إلى وفاتها بعد أسبوعين فقط من الولادة، لكن بسبب منحها له المولود الذكر، اعتبرها الملك هنري الثامن زوجته الحقيقية، وأراد أن تُدفن إلى جواره في قبره الخاص الذي كان قد بدأ بإنشائه وقتها في كنيسة القديس جورج بقلعة وندسور، وهي الزوجة الوحيدة من بين زوجات هنري الست التي دُفنت إلى جواره كان هنري يريد التقارب مع البروتستانتيين لمحاربة الكاثوليك، ففي عام 1539 ظهر أن القوتين الكاثوليكيتين الرومانيتين، فرنسا والإمبراطورية الرومانية المقدسة، كانا على وشك الانضمام معًا لمُهاجمة إنجلترا البروتستانتية، وقد دفع هذا التهديد رئيس وزراء هنري، توماس كرومويل، لترتيب الزواج لإقامة علاقات بين إنجلترا والأعداء اللوثريين للإمبراطور الروماني المقدس، تشارلز الخامس. استمر زواج هنري من آن ستة أشهر فقط، و لُقبت بالملكة المحظوظة لأنها تزوجت من هنري واستطاعت الإفلات من قبضته وطغيانه، ويرى بعض المؤرخين أن الملكة الشابة التي كانت تتحدث الإنجليزية بالكاد قد نجت من هنري ومكائد المحكمة الإنجليزية، أما عن سبب نجاة جين فيُقال أنه بعد أيام قليلة من الزفاف شعر هنري بخيبة أمل شديدة، فقد كانت آن أقل جاذبية مما كان متوقعًا، وسرعان ما استاء هنري من افتقارها إلى الرقي ومعرفتها المحدودة باللغة الإنجليزية، وبعد أن فشل التحالف بين القوى الكاثوليكية أصبح لا فائدة من استمرار الزواج، وهو ما أدى إلى الانفصال. كاثرين هوارد.. جددت حياته قبل إعدامها الزوجة الخامسة هي كاثرين هوارد وقد كانت ابنة اللورد إدموند هوارد، الأخ الأصغر لتوماس هوارد، دوق نورفولك، وهي أيضًا ابنة عم آن بولين، الزوجة الثانية للملك هنري، حينما رأى هنري كاثرين أُعجب بها فقد كانت فتاة صغيرة شديدة الجمال، وقد شجع دوق نورفولك ابنة أخيه على استغلال اهتمام الملك بها، وقد رأى دوق نورفولك أن عليه استغلال كارثة زواج الملك من آن كليفز فرصةً لتشويه سمعة عدوه، توماس كرومويل، رئيس وزراء الملك الذي رشح له الزوجة التي لم تلق استحسانه، وبعد فترة وجيزة من إبطال الزواج جرى إعدام كرومويل. بعد 16 يومًا من انفصال هنري عن آن تزوج زوجته الخامسة كاثرين، كان الملك في التاسعة والأربعين من عمره بينما لم تكن عروسه قد تجاوزت التاسعة عشر من عُمرها بعد، تمكنت الزوجة الشابة من تحسين الحالة النفسية للملك، الذي كان قد اكتسب الكثير من الوزن، وقد كان يُعاني من تقرح ساقه التي ظلت تؤلمه حتى وفاته، كانت الفتاة مرحة واستطاعت أن تُعيد شهية الملك للحياة، فأغدق هنري الهدايا على زوجته، ويبدو أنها تمكنت من إيقاظ الشاعر الرومانسي بداخله، فأطلق عليها عددًا من الألقاب مثل «وردة بلا شوك» و«جوهرة الأنوثة». لكن بعد أقل من عام واحد بدأت الإشاعات تتردد حول خيانة كاثرين لزوجها الملك، وبحلول نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1541 كان هناك ما يكفي من الأدلة ضد الملكة، ومن هذه الأدلة كانت شهادة رئيس الأساقفة الذي أخبر الملك عن سوء تصرفات كاثرين، لم يكن هنري في البدء يُصدق هذه الإتهامات، لكنه سمح بإجراء مزيد من التحقيقات حول الأمر، وقد جرى جمع المزيد من الأدلة حول تورط الملكة بعلاقة غير شرعية مع خطيبها السابق فرانسيس ديرهام، وفي فبراير(شباط) عام 1542 جرى إعدام كاثرين، ودُفنت بالقرب من ابنة عمها آن بولين في كنيسة القديس بطرس ببرج لندن. كاثرين بار.. أرملة هنري التي تزوجت سرًا الزوجة السادسة للملك هنري هي كاثرين بار وقد أسمتها والدتها بهذا الاسم نسبة للملكة كاثرين أراجون الزوجة الأولى للملك هنري، كانت كاثرين بار تملك شغفًا قويًا للتعلم، وقد تمكنت من إجادة اللغة الفرنسية واللاتينية والإيطالية، وبدأت في تعلم الإسبانية بعدما أصبحت الملكة. تزوجت كاثرين مرتين قبل زواجها من الملك هنري، وقد توفي زوجاها السابقان، عندما بدأ الملك هنري في ملاحظتها كانت أرملة تبلغ من العمر 31 عامًا، لم يكن الملك هنري هو وحده من بدأ في مُلاحظة كاثرين، لكن توماس سيمور شقيق الملكة الراحلة جين سيمور لاحظها أيضًا وأراد الزواج منها، وقد أوشكت كاثرين على قبول عرض الزواج، لكن حينما طلب الملك هنري يدها أيضًا اعتبرت كاثرين أن من واجبها قبول طلب الملك، كان حفل زواج كاثرين وهنري حفلًا صغيرًا ولم يتجاوز عدد حضوره العشرين شخصًا كانت كاثرين مُهتمة بالإصلاح الديني، وهو ما أوقعها في مُشكلات عديدة مع المُحافظين كادت أن تؤدي إلى اعتقالها واتهامها بالهرطقة، أما عن علاقتها بالملك فقد تراجعت الحالة الصحية لهنري كثيرًا، وهو ما جعل كاثرين بالنسبة له ممرضة أكثر من كونها زوجة، كانت كاثرين قريبة من جميع أطفال زوجها الملك، وشاركت في البرنامج التعليمي للطفلين إليزابيث وإدوارد، كذلك كانت أيضًا راعية للفنون والموسيقى. توفي هنري الثامن في جانفي من عام 1547، وكان من المُحتمل أن تلعب كاثرين دورًا في الوصاية على الملك إدوارد السادس البالغ من العمر تسع سنوات، لكن هذا لم يتم لأنه بعد بضعة أشهر فقط من وفاة هنري ، تزوجت كاثرين سرًا من توماس سيمور، وهو الزواج الذي انكشف
أمره سريعًا، وأفقدها حظوتها






الاثنين، 12 أكتوبر 2020

القراءة بصوت عال






تختلف العادات المتبعة في القراءة من شخص لآخر، فهناك من يفضّل القراءة وترديد الكلمات
 بصوت مرتفع، وهناك من يعتمد على القراءة الصامتة.
وفي العادة، ترتبط القراءة بصوت عال بعالم الأطفال، وينظر إليها على أنها تقنية منوطة بالقرّاء غير المتمرّسين، بحيث يتم التخلص منها تدريجياً بمجرد أن يتعلم هؤلاء الأفراد القراءة بصمت. ولكن لطالما اعتبرت القراءة، عبر التاريخ، نشاطاً "صاخباً" إلى حد ما، واللافت أنه على الألواح الطينية التي كُتبت في العراق وسوريا قبل نحو 4000 سنة، كان يشار إلى القراءة حرفياً بـ "يصيح" أو "ينصت"، وقد جاء في إحدى الرسائل التي تعود إلى تلك الحقبة: "أرسل لك هذه الرسالة العاجلة. أنصت إلى هذا اللوح، أو إن كان مناسباً، اطلب من الملك أن ينصت له".

ولكن اليوم من الملاحظ أن القراءة الصامتة أصبحت هي القاعدة، بحيث تقوم الأغلبية من الناس بحبس الكلمات في الرأس أثناء القراءة، في حين أن القراءة بصوت عال باتت مقتصرة على سرد القصص للأطفال قبل النوم أو العروض المسرحية، إلا أن العديد من الأبحاث تتحدث عن الفوائد الكثيرة التي نضيّعها عند ترديد الأصوات في أذهاننا فقط، دون التلفظ بها أثناء القراءة

فن القراءة بصوت عال

يعود فن القراءة بصوت عال على البالغين بفوائد عديدة، سواء كان ذلك من خلال تقوية الذاكرة وفهم النصوص المعقدة وحتى توطيد الروابط العاطفية بين الناس، وبعيداً عن كونه نشاطاً قديماً، فإن القراءة بصوت مرتفع لا يزال شائعاً بشكل مدهش في الحياة الحديثة، هذا ويستخدمه الكثير من الناس كأداة لفهم النصوص المكتوبة من دون أن يدركوا ذلك، وفق ما ذكره موقع بي بي سي.

في هذا الصدد، أجرى عالم النفس في جامعة واترلو في كندا، كولين ماكلويد، أبحاثاً مكثفة حول تأثير القراءة بصوت عال على الذاكرة، وقد أظهر ماكلويد وزملاؤه أن الأفراد تذكروا الكلمات والنصوص التي قاموا بقراءتها بصوت مرتفع مقارنة بالقراءة الصامتة، وقد تبيّن أن تأثير القراءة بصوت مرتفع كان قوياً بشكل خاص لدى الأطفال، رغم أنه مفيد أيضاً لكبار السن، بحسب ما أكده ماكلويد: "القراءة بصوت مرتفع مفيدة لجميع الأعمار"، على حدّ قوله.

وأطلق ماكلويد على هذه الظاهرة اسم "تأثير الإنتاج"، مشدداً على أن "إنتاج" الكلمات المكتوبة، أي قراءتها بصوت مرتفع، يحسن ذاكرتنا عنها.

على مدى سنوات، انكبت العديد من الدراسات على تحليل ظاهرة "تأثير الإنتاج"، وفي إحدى الدراسات التي أجريت في أستراليا، تم تقديم قائمة من الكلمات على مجموعة من الأطفال تتراوح أعمارهم بين 7 إلى 10 سنوات، وطُلب منهم قراءة بعضها بصمت وبعضها الآخر بصوت عال.

النتيجة هي تذكّر الأطفال87% من الكلمات التي قرأوها بصوت مرتفع مقارنة بـ 70% فقط من الكلمات التي قرأوها بصمت

وفي دراسة أخرى، تم تكليف بالغين تتراوح أعمارهم ما بين 67 و88 عاماً بقراءة كلمات، إما بصمت أو بصوت عال، ثم كتابة كل ما يمكنهم تذكره. واستطاع المشتركون تذكر 27% من الكلمات التي قرأوها بصوت مرتفع، في حين لم يتذكروا إلا 10% من الكلمات التي قرأوها بصمت، كما استطاع المشتركون التعرف على 80% من الكلمات التي قرأوها بصوت مرتفع، مقارنة بـ 60% فقط من الكلمات التي قرأوها بصمت.

واللافت أن ماكلويد وجد أن هذا التأثير يمكن أن يستمر لمدة أسبوع بعد قراءة الكلمات، معللاً بأن أحد أسباب قدرة الناس على تذكر الكلمات المنطوقة تعود إلى كونها بارزة ومميزة، لأنه يتم لفظها بصوت مرتفع

تحسين الذاكرة


بالإضافة إلى أن القراءة بصوت مرتفع تساعد في إبراز بعض مشاكل الذاكرة والكشف عنها في وقت مبكر، بحسب ما كشفته إحدى الدراسات، ذلك أن الأشخاص المصابين بمرض الزهايمر في مراحله المبكرة، كانوا أكثر عرضة من غيرهم لارتكاب أخطاء معينة عند القراءة بصوت مرتفع. وهناك طريقة أخرى لجعل الكلمات تلتصق في الذاكرة، وهي تمثيل هذه الكلمات، كأن نتخيل مثلاً عملية رمي الكرة أو نتخيل شخصاً يقوم برمي الكرة أثناء التلفظ بهذه العبارة.

وفي السياق نفسه، يساعد الإنصات لقراءة الآخرين أيضاً في تقوية الذاكرة، ففي دراسة أجراها باحثون من جامعة بيروجيا في إيطاليا، قرأ طلاب مقتطفات من روايات لمجموعة من كبار السن المصابين بالخرف على مدى 60 جلسة، وقد تبيّن أن أداء المستمعين في اختبارات الذاكرة قد تحسن بعد الجلسات، والسبب قد يكون في كون الاستماع إلى القصص جعلهم يعتمدون على ذكرياتهم وخيالاتهم ووضع تجاربهم السابقة في تسلسل زمني.

من هنا خلص الباحثون إلى القول بأن الإنصات لقصة ما قد يؤدي إلى "معالجة معلومات أكثر عمقاً".

نستخدمها دون أن ندري

هناك بعض الأدلة التي تشير إلى أن الكثيرين يدركون بشكل بديهي فوائد القراءة بصوت عال، ويستخدمونها من دون أن يدركوا.

أجرت سام دانكان، الباحثة في محو أمية القراءة في جامعة لندن، دراسة لمدة عامين، شملت أكثر من 500 شخص في جميع أنحاء بريطانيا، لمعرفة متى وكيف يقرأون بصوت عال، ولاحظت دانكان أن معظم المشتركين يقولون في البداية إنهم لا يقرأون بصوت مرتفع، ثم يدركون أن العكس هو الصحيح

ذكر بعض المشتركين أنهم يقرأون رسائل البريد الإلكتروني والرسائل المرحة للترفيه عن الآخرين، في حين قال آخرون إنهم يقرأون الصلوات بصوت عال لأسباب دينية، وبدورهم يقرأ الكتّاب والمترجمون المسودات بصوت عال للاستماع إلى الإيقاع وسلاسة النص، وأحياناً يقرأ الناس وصفات الطهي والعقود والنصوص الصعبة بصوت مرتفع لفهمها.

وذكر الكثير من المشتركين أن القراءة بصوت عال تجلب الفرح والراحة والشعور بالانتماء. وبحسب دانكان، فإن البعض كانوا يقرأون لأصدقائهم المرضى أو المحتضرين كوسيلة للهروب من الواقع.

وتقول دانكان إن بعض المشتركين ذكروا أن الشخص الذي يقرأ لكم بصوت مرتفع كأنما يهديكم جزءاً من وقته واهتمامه وصوته

ولكن إذا كانت القراءة بصوت مرتفع تحمل كل هذه الفوائد التي ذكرناها في السابق، لماذا تحوّل البشر إلى القراءة الصامتة؟

القراءة الصامتة


مع مرور الوقت، طور الكتبة طرقاً أسرع وأكثر فعالية للكتابة بالخط المسماري

وبحسب كارينلي أوفرمان، الأخصائية في علم الآثار الإدراكي في جامعة برغن النرويجية، والتي تدرس تأثير الكتابة على أدمغة البشر وسلوكياتهم في الماضي، فإن مثل "هذه الخربشة السريعة لها ميزة حاسمة، بحيث أنها تواكب سرعة التفكير بشكل أفضل

هذا وأوضحت أوفرمان أن القراءة بصوت عال أكثر بطئاً من القراءة الصامتة

أي قراءتها بصوت مرتفع، يحسن ذاكرتنا عنها

 اقتبس دومينيك شاربين خطاباً دوّنه أحد الكتبة ويدعى هولالوم، يلمح فيه إلى القراءة الصامتة

وميّز هولالوم بين القراءة الصامتة بكلمة "يطالع أو يبصر"، والقراءة بصوت مرتفع بكلمة "يقول أو ينصت"، بحسب الموقف

على الأرجح أن الكتبة القدامى قد استمتعوا بوجود نمطين للقراءة تحت تصرفهم: أحدهما سريع ومريح وصامت، والآخر أبطأ وأكثر ضجيجاً ويساعد على ترسيخ المعلومات في الذاكرة.

وبالنسبة لنا، ففي الوقت الذي أصبحت فيه تفاعلاتنا مع الآخرين عابرة مع سيل المعلومات التي نتلقاها، ربما يكون من المفيد أن نعود إلى الدراسات التي شددت على أنه إذا أراد المرء أن يتذكر بعض المعلومات فيتوجّب عليه قراءتها بصوت مرتفع. وعليه، يجب أن نخصص بعض الوقت للقراءة بصوت عال

الجمعة، 18 سبتمبر 2020

تاريخ الأباطرة والبابوات






يذكر بولونوس العديد من القصص والمآثر عن رجالات الفاتيكان، وبعض القصص الغريبة وغير المفهومة أيضاً، فمثلاً يذكر أنه في عام 857 تم إعلان البابا يوحنا الثامن، ثم بعد ذلك بحوالي عشرين سنة تم إعلان اسم البابا الجديد باسم يوحنا الثامن مرة أخرى، وكأن هناك باباوين بنفس الاسم، ثم يذكر من السجلات القديمة تفاصيل قصة على قدر كبير من الغرابة، تم طمسها لاحقاً من النسخ الجديدة من كتابه، بل ومن تاريخ الفاتيكان كله أيضاً.



طقوس ترسيم البابا







ذكرت العديد من المواقع المتخصصة بعض الطقوس المصاحبة لترسيم البابا، رأس الكنيسة الكاثوليكية وخليفة الله على الأرض، بعض هذه الطقوس فخرية ومقدسة، وبعضها يشوبه شيء من الغموض الطريف. من أطرف الطقوس طقس يدعى "خلع الملابس"، حيث يجلس البابا الجديد على كرسي مثقوب، بحيث تتدلى أعضاؤه الجنسية من الثقب، ثم يتولى أصغر الكرادلة مسألة "جسّ" الأعضاء التناسلية للبابا الجديد، ثم يصرخ:"Duo testis bene bondeta"، أي لديه اثنتان ومعلقتان بشكل متين، فيصرخ حشد الكرادلة الحاضرين: "Deo gratias" أي لنشكر الله!





ما أصل

حسب نفس المؤرخ، يعود الأمر إلى العام الميلادي 859 تقريباً: كان البابا يوحنا الثامن الذي تلقى ترسيمه عام 857، ذا جمال أسطوري فاتن، لكنه لا يستخدمه لإغواء الفتيات، فقد تعهّد بالعفة. بابا سيادي ممتاز، نادراً ما غادر قصره، يحمل بجدية لا تشوبها شائبة، على كتفيه النحيلتين، عبء الخطاة، ويسعى لمصالحتهم مع الرب وتدبير غفرانه.
لكن الأمور لا تسير دوماً على النحو الذي نريده، فالرب يمتلك خططاً غامضة على الدوام، ففي أحد احتفالات صعود يسوع إلى السماء، قرر مشاركة هذا الطقس، وكيف أصبح جزءاً من مراسم تنصيب بابا الفاتيكان؟ الناس في الاحتفال، فركب بغلته وسار في موكب عبر مدينة روما.
في الطريق تزاحم الناس لرؤيته، التبرّك به ومحاولة لمس الرجل المقدس، ويقال إن بعض النساء أغمي عليهن لشدة جماله ولسحره قدسي الهيئة، فجأة وقع ما لم يكن أبداً بالحسبان: لقد سقط البابا الفاتن على حصى روما، وبدأ بالصراخ وهو يضع يديه الاثنتين على بطنه..


هرع الناس لنجدته، ولكن، وتحت أعين جمهور المؤمنين الذاهلة، كان ثمة جنين وردي اللون يخرج من تحت القفطان المقدس: قد يبدو غريباً ما نقول، لكن... لقد أنجب البابا يوحنا الثامن طفلةً للتوّ.
ثوان من التردد قبل أن يكتشف الجمهور أن البابا في الحقيقة هو "ماما"، أو بابا مؤنث مثلاً، تنتاب الجمهور المؤمن، وكرادلة الكنيسة الذين لا يسمحون أبداً بهذا الزيف، لحظة وحشية من الإحساس بالخديعة، ويقومون برجم البابا المؤنث وطفلته بالحجارة حتى الموت..

عودة إلى الخلف






بالعودة إلى تاريخ حياة هذه المرأة/ البابا، كانت امرأة انجليزية ولدت تحت اسم جون بالقرب من ماينز في ألمانيا، وكان أبوها مبشراً. القريبون منها كانوا يدعونها جلبيتا Gilbetta وأحياناً جوتا Jutta. بدأت بعمر 12 عاماً بلبس ملابس الصبيان والتشبّه بهم، حتى أن من يراها لا ينتابه الشك أبداً بأنها صبي. ولأن التعليم كان مرهوناً للذكور ولرجال الدين فحسب، بدأت بالتنقل كرجل وقامت بدراسة الفلسفة في أثينا، ثم الرحيل إلى روما بعدها لتنضمّ للسك الكنسي بعد التنكر بزي الرجال، وتدرجت في المناصب وأقامت علاقات ممتازة مع جميع كرادلة الفاتيكان، نتيجة لباقتها ولطفها ومسيّحيتها التي لا تشوبها شائبة، وترشحت لمنصب البابا بعد وفاة ليو الرابع عام 857 وحصلت عليه بمباركة الجميع، واتخذت لقب "يوحنا الثامن"، واستمرت في هذا المنصب عامين وخمسة أشهر وأربعة أيام لقد هزّ هذا الحدث بعمق رجال الكنيسة، ودفنوا الجثتين في نفس المكان الذي رجمتا به، ووضعوا شاهدة من المرمر وتمثالاً يصور امرأة تحتضن طفلة، قبل أن يأتي البابا بيوس الخامس أواخر القرن السادس عشر ويأمر بإزالة التمثال والشاهدة ومحي كل ما من شأنه أن يظهر الأمر في أرشيف الفاتيكان، وبعدها أصبح لزاماً، لضمان عدم تكرار هذه الخدعة، "فحص" البابا الجديد للتأكد من رجولته.
يشكّك العديدون بهذه القصة، ويقولون إن البابا يوحنا الثامن ذاك لم يكن موجوداً أبداً، رغم وجود العديد من التفاصيل الأخرى التي توردها الكتب التي تناولت القصة، لكن الأمر يعزى إلى الشيطان دائماً الذي يكثر من التفاصيل.

خلال العصور الوسطى، ذُكر البابا يوحنا الثامن في العديد من الأعمال، إضافة لكتاب "تاريخ البابوات والأباطرة" سابق الذكر، قيل إن البابا ليو التاسع نفسه ذكر في رسالة إلى بطريرك القسطنطينية، في منتصف القرن الحادي عشر "أن امرأة احتلت مقعد أحبار روما".
الجانب المذهل الآخر، أن الخليفة المذكور للبابا ليو الرابع، أي ما يفترض أنه المرأة المحتالة، هو البابا بنديكت الثالث، الذي لا يعرف عنه الكثير سوى أنه كان يرفض مغادرة قصره ومات في عام 858 فجأة، رافضاً الدفن في بازيليك القديس بطرس، معتبراً أنه "لا يستحق أن يكون بالقرب من القديسين".
ثمة رواية أخرى يمكن ملاحظتها هنا، بعض الوثائق في تلك الآونة تستخدم اسماً أنثوياً للتدليل على البابا يوحنا الثامن الجديد الذي جاء في عام 872، فتسميه "Papesse" بدل "Pape" و"Jeanne" بدل "Jean"، ويقال إن ذلك بسبب ضعفه في وجه كنيسة القسطنطينية القوية، وربما أيضاً وجود علامات على مثليته الجنسية آنذاك، والبعض يقول إن المسلمين من قاموا بالترويج للاسم.
هل قام الفاتيكان بخلط الشخصيتين لإخفاء هذا الأمر؟ أم أن هناك ارتباكاً شائناً حاول الجميع طمسه؟ أم أن الأمر مجرد مخيلة لا أكثر من أحد "الزنادقة" الملحدين؟ لا أحد يعلم فعلاً، لكن إحدى أوراق "تاروت مرسيليا" تحمل اسم البابا المؤنث، وترمز للأنوثة والانفتاح وازدواجية الرجل والمرأة، أي جميع الرموز التي تدلّ على البابا المؤنث يوحنا الثامن.


 

الخميس، 27 أغسطس 2020

يوميات نائب في الأرياف


«إنني أعيش مع الجريمة في أصفاد واحدة. إنها رفيقي وزوجي أطالع وجهها في كل يوم».

هكذا يكتب الراوي/النائب في مطلع رواية توفيق الحكيم الرائدة «يوميات نائب في الأرياف»، ليبدأ بعدها مشاهداته الواقعية أثناء عمله كممثل للقانون في ريف مصر، ومشاهداته للجرائم المتباينة التي تتراوح بين سرقات صغيرة وخلافات عائلية وحتى جرائم القتل، ويبرز بينها جريمة إطلاق النار على قمر الدولة علوان.

في نهاية الكتاب الصادر عن «مكتبة مصر»، يذكر الناشر بعض آراء النقاد الغربيين في الرواية، إذ يقول الصحفي الفرنسي جان لاكوثور: «الكتاب قبل كل شيء وثيقة (أنثروبولوجية) عظيمة.. وصورة من أكثر الصورة أمانة، وأبلغها تأثيرًا، لمجتمع القرية في مصر».

في مقابل هذه النظرة «الأنثروبولوجية» للرواية، يتحدث غالي شكري في كتابه «ثورة المعتزل» عن واقعية الرواية التي انفصلت عن الحس الرومانسي، الذي اتسمت به كتب الحكيم والروايات العربية قبل «يوميات نائب»، وكيف أثرت واقعية هذه الرواية في الأدب الواقعي الاشتراكي المصري التالي للحكيم.

ورغم وجاهة هذين الرأيين إلا أنهما يغفلان جانبين آخرين مهمين لرواية «يوميات نائب في الأرياف»؛ أولهما الجانب الوجودي في وضع النائب، المغترب الذي سقط على إحدى القرى ويعي تمامًا عبثية موقفه ووظيفته وعبثية القانون الذي يطبقه، هذا الوضع الذي صار يصيبه بالتبلد.

والجانب الآخر هو الجانب البوليسي في القصة، فوسط مشاهدات النائب وأوصافه الواقعية للقرية ومحاولات تطبيق القانون فيها، يظل حجر الأساس في الرواية كلها، أو الهيكل الذي يمسك مفاصلها هو حادث إطلاق النار على قمر الدولة علوان، الجريمة التي تتكشف شيئًا فشيئًا أثناء مُضي الرواية، وينتظر القارئ معرفة معلومة جديدة أو كشف جديد عنها.

حين ننظر لخلفية توفيق الحكيم الثقافية نهتم باطلاعه على الثقافة الفرنسية الرفيعة، ومن ثم الكلاسيكيات الغربية، ونرى متابعة للحركة الفنية المصرية في شبابه، وهي التي كانت في أصلها حركة ترجمة اعتمد عليها المسرح المصري في بداياته، ولكن هناك خلفية أخرى تحدث عنها الحكيم، ففي صباه، ومثلما نقرأ جميعًا في صبانا، كان يقرأ كتب المغامرات والقصص البوليسية، يقول الحكيم للغيطاني في كتاب «توفيق الحكيم يتذكر» إنه قرأ «… حلقات وسلاسل المغامرات التي كانت تطيش بلُبِّي، فبعد سلسلة (زنجومار) جاءت حلقات (فانتوماس)، هذا إلى جانب روايات (روكامبول)».

وكثيرًا ما نتعامل باستهانة مع هذا الجانب من الثقافة حين نتحدث عن الكتاب الكبار، وهذه الاستهانة تمتد إلى النقد الراسخ، ففي كتابها «تاريخ حركة الترجمة الأدبية» تنتقد لطيفة الزيات الفترات التي اهتم بها المترجمون بهذه النوعية من الروايات، روايات «شرلوك هولمز» و«روكامبول» وغيرها، وبدا أنها تعتبر ترجمة هذا النوع «التجاري» انحرافًا عن مسار الترجمة المناسب، قبل أن يعود المترجمون المصريون لترجمة عيون الأدب العالمي.

ولكن رغم ذلك، لم يخل هذا الأدب من تأثير على الأدب المصري الرائد، ولا مفر من ذلك طالما نشأ الأدباء المصريون عليه. فالحكيم هنا يستخدم في روايته الحس البوليسي، ونجيب محفوظ استخدمه كثيرًا في أعماله، هو الذي قال إنه كان يقرأ سلسلة «جونسون» البوليسية التي يترجمها حافظ نجيب. فبخلاف مجموعة قصصية مثل «الجريمة»، استخدم محفوظ عناصر بوليسية في رواية تتسم بالفكر الفلسفي والصوفي مثل «الطريق».

لماذا اتجه الحكيم هذا الاتجاه في «يوميات نائب»؟ بالطبع كان لعمله في النيابة تأثيرًا عليه. ولكن في الرواية نفسها يقول الراوي بحسه الساخر إن حتى الجرائم الجنائية لم تكن تؤثر فيه، ويذكر موقف تعلم فيه من رئيس النيابة أن حجم محضر جريمة القتل يجب أن يكون كبيرًا ولا يصح أن يكون 10 صفحات فقط، أي أن العبرة بوزن المحضر وليس بأهميته أو بأهمية التعرف على الجاني.

إذن لدى الشخصية المبرر الكافي بأن تعتبر الجناية هنا أمرًا عابرًا، النائب نفسه لا يتعاطف –أثناء عمله- مع المجرم بسبب الجوع أو عدم الفهم، يمكن أن تصبح الجريمة هنا مشاهدة وسط المشاهدات، يعلق عليها النائب بحسه الساخر. وأصلًا الرواية العربية كانت فنًا ناشئًا، متأخرة عن المسرح أصلًا، ولن يُلام إذا لم يعزز في روايته حبكة، ناهيك بحبكة بوليسية. ولكن ربما كان الاختيار تلقائيًا، أو تأثر الحكيم بقراءات صباه، ولكن من المرجح أيضًا أن الحكيم أراد أن يظل القارئ منجذبًا للرواية، فكان الاختيار الأمثل هو متابعة هذا الخيط الدرامي المثير، وربما يكون هذا أيضًا ليكسب أرضًا جديدة وقارئًا جديدًا.

بعد المطولات التأملية والواقعية التي كانت تتخلل العمل، يعود الحكيم من آن لآخر ويذكر تطورًا في الأحداث وكشفًا آخر في الجريمة، فبعد إطلاق النار على قمر الدولة علوان نعرف أن هناك شخصية في حياته هي ريم، شقيقة زوجته، الفتاة الصغيرة الجميلة، التي يندهش جميع ممثلي القانون من جمالها، وقبل وفاة قمر الدولة علوان يتفوه باسم «ريم» حتى نتخيل أنها من أطلقت النار عليه. يظل الوضع غامضًا: هل هو في علاقة معها؟ هل يحبها ويمنع جميع من يتقدم لخطبتها؟ وبعدها نعرف أن زوجة قمر الدولة توفت مخنوقة، ما يجعلنا نتصور أركان مكتملة للجريمة، هل كان قمر الدولة وريم في علاقة، وأراد إزاحة زوجته؟ وأخيرًا تغرق ريم في الريَّاح. لتظل سلسلة الجرائم غامضة.

هكذا تظل الرواية جذابة حتى للقارئ العصري، فإذا كنت لا تولي اهتمامًا بوضع الفلاح المصري وطرافة تطبيق القانون الفرنسي عليه، أو وضع النائب بثقافته المختلفة في ريف مصر، أو السخرية من النظام القضائي (لنتخيل عملًا فنيًا يحمل سخرية مشابهة في عصرنا الحالي!)، فما زال لديك خط مثير للاهتمام تود معرفة تطوره باستمرار.

في النهاية لا يشبعك الحكيم بتقديم حل للجريمة، ولا شك أن وجود الحل كان سيقلل كثيرًا من قيمة الرواية. يُحفَظ محضر الجريمة كتعبير عن القانون الشكلي الذي يغلف كل شيء في مصر في ذلك الوقت، وحتى وقتنا هذا.

«يوميات نائب في الأرياف» رواية رائدة في فن القص العربي، وثيقة تاريخية عن عصر ما، تشتمل على حس ساخر للراوي يتميز به الحكيم، وموقف وجودي تقع فيه الشخصية الرئيسية، ولكن تصير الرواية أكثر إمتاعًا حين ننتبه إلى التقنية البوليسية التي استخدمها الحكيم، لتكون الأساس الذي يبني عليه كل شيء آخر.

الأربعاء، 29 يوليو 2020

عدد مرات منع الحج في الاسلام

إن كنت تعتقد أن فیروس كورونا كان السبب الوحید لتعلیق وإلغاء مراسيم الحج والعمرة لعام 1441 ھـ فأنت لست على صواب تماماً، فھناك ُ العدید من الأزمات والأزمان العصیبة التي جعلت من أداء مراسم الحج والعمرة أمراً صعباً على المسلمین مما اضطر المملكة العربیة .السعودیة إلى وقفھا خلال ھذه الفترات فنظراً لتزاید أعداد المصابین بعدوى كورونا في مختلف دول العالم مما أصبح بمثابة طارئة صحیة خطیرة تُھدد حیاة الكثیرین، قامت المملكة العربیة السعودیة باتخاذ عدداً من الإجراءات الوقائیة لمنع انتشار العدوى على أراضیھا ومنھا تعلیق دخول الزائرین إلى أراضي المملكة .لأداء مراسم الحج والعمرة أو زیارة المسجد النبوي الشریف بشكل مؤقت، كأحد الإجراءات الاحترازیة للوقایة من فیروس كورونا وكما ذكرنا فھذه لیست المرة الوحیدة بل توقفت شعائر الحج والعمرة على مر التاریخ حوالي أربعین مرة لظروف عصیبة، والتي نستعرضھا .معكم في المقال الآتي

عدد مرات منع الحج في الاسلام 

أجاز علماء المسلمین في مختلف دول الوطن العربي بجواز تعلیق أداء المسلمین لشعائر الحج والعمرة بموجب أسباب كبرى تستوجب الحفاظ على أرواح المسلمین، كانتشار الأوبئة كما هو حال فیروس كورونا، فقد تعطلت مراسم الحج على مر التاریخ قرابة 40 مرة والتي من أبرزھا:

 حادثة القرامطة وسرقة الحجر الأسود 317 ھـ


كانت ھذه المرة الأولى على مر التاریخ الإسلامي التي یتوقف خلالھا أداء مراسم الحج، حیث خاف الناس من أداء مراسم الحج ھذا . ً العام بسبب القرامطة الذین كانوا یعتقدون أن شعائر الحج واحدة من شعائر عبادة الأصنام خلال الجاھلیة ُ حیث ُ وقف أبو طاھر القرامطي خلال ھذه الحادثة على باب الكعبة منشداً على أعوانه أن یحصدوا أرواح من یقدموا على القیام  بالحج، لیغیر القرامطة على المسجد الحرام ویقتلوا كل من فیه بل وسرقوا الحجر الأسود لیحجبوه عن الناس فیما یزید عن 22 عاماً وحینھا لم یجد المسلمین أمامھم سوى التعلق بأستار الكعبة والاستغاثة بالله عز وجل، لیحیطھم القرامطة بالسیوف من كل جانب .وتختلط دمائھم بأستار الكعبة المشرفة

 حدوث مذبحة على صعید عرفة 251ھـ 



شھدت المملكة العربیة السعودیة في عام 251 ھـ، 865 ُ م على صعید عرفة مذبحة دمویة عظیمة حیث قام إسماعیل بن یوسف العلوي وأتباعه حشود الحجاج على جبل عرفة لیقتلوا منھم أعداداً غفیرة وتسیل دمائھم الطاھرة على الجبل، فتمت تعلیق شعائر الحج .حینھا 

ھجمات الأعراب والفتن الداخلیة 329 ھـ

 

ِ ورد في المراجع التاریخیة حدوث فتنة عظیمة بالعراق من قبل العامة بمدینة بغداد على النصارى، فحدث نھب للبیعة وإحراقھا لتسقط على مجموعة من المسلمین ویھلكوا في الحال .لتنتشر الفتنة وتتعاظم ببلاد العراق ھذا العام فلا یتمكن أھله من الذھاب لأداء شعائر الحج 

وباء الطاعون 357 ھـ خلال ھذا العام استشرى داء الطاعون في مدینة مكة لیموت بھا الكثیر من الناس بل ماتت الجمال التي كانت تحمل فوق ظھورھا الحجاج في الطریق عطشاً فلم یتمكن من بلوغ مكة منھم إلا عدد قلیل والذین مات أغلبھم عند وصولھم لمكة لإصابتھم بمرض . ُ الطاعون، حیث مات ما یزید عن ثمانیة آلاف شخصاً في بلاد الحجاز حینھا، فتوقفت شعائر الحج بسبب الوباء


توقفت رحلات الحج من مصر خلال عام 1213 ھـ أثناء وجود الحملة الفرنسیة بھا وذلك لخطورة الطریق وعدم أمانھا على الحجاجُ   لرحلات الحج بسبب ما عرف بحادثة المحمل المصري فأنقطع الحجاج تماماً من مصر  كما حدث في عام 1344 ھـ   انقطاعاً لم یتمكن أحد منھم من الذھاب إلى مكة 

 قتل الوباء الھندي للكثیر من الحجاج 1246 ھـ
خلال موسم الحج في عام 1246 ھـ، 1831 ً م تفشى في المملكة وباء عظیم أعتقد أنه جاء من بلاد الھند لیتسبب في وفاة ما یزید .عن ثلاثة أرباع أعداد الحجاج آنذاك 
وباء الكولیرا في عام 1846 ُ م
 تفشى وباء الكولیرا بین الحجاج بشكل كبیر لیظل منتشراً طوال موسم الحج في عام 1850م وقد تكرر في الأعوام .1865م ، 1833 ُ م مسبباً توقف شعائر الحج في السعودیة 


انتشار الغلاء 

تعطلت شعائر الحج خلال عام 390 ھـ بسبب انتشار غلاء الأسعار وتفشي الظلم والظلام فلم یتمكن أحد من أھل المشرق ولا أھل مصر من الذھاب للحج بسبب ما شعر بھ المسلمون من فقدان للأمن وانتشار النزاع والخلافات، وذلك قبل أن یتمكن الصلیبیون من .إسقاط القدس واحتلالھا بخمس سنوات فقط
 
ھروب الحجاج من الحجاز إلى مصر خلال عام 1858 ً م 

انتشر بالمملكة وباء شدید دفع الحجاج إلى الفرار من بلاد الحجاز إلى مصر التي أقامت لھم حجراً صحیاً في .منطقة بئر عدن منعاً لتفشي الأمراض والأوبئة 
موت الحجاج بمقدار ألف حاج في الیوم خلال عام 1864 ً م 
تفشى بالمملكة السعودیة وباء خطیر تسبب في وفاة ما یقرب من ألف حاج في الیوم الواحد، لینتشر بالمدینة ُ المنورة ولیصیب الكثیرین مما أضطر مصر إلى بناء حجر صحي بمكة المكرمة في الطریق من مكة إلى المدینة وإرسال الأطباء من .مصر إلى المدینة لعلاج المرضى والمصابین 
وباء الكولیرا وتراكم جثث ضحایاه خلال موسم الحج في عام 1982 م
 تفشى وباء الكولیرا بالمملكة مرة أخرى إلا أنه كان أكثر شدة فأصاب الكثیرین حتى تراكمت . ُ جثث ضحایاه فلم یكن الوقت یساع لدفنھم كلھم، حیث كانت أعداد الوفیات تتزاید في عرفات بل أنھا بلغت ذروتھا من الشدة في من
 وباء التیفوید ُ استشرى وباء التیفوید أو ما عرف بـ الزحار قبیل موسم الحج 1895 ُ م منطلقاً من قافلة تجاریة جاءت من المدینة المنورة لیستمر .ولكن لیس بشدة عند جبل عرفات وینتھي في منى بعد أن توقفت شعائر الحج
 التھاب السحایا انتشر مرض التھاب السحایا في عام 1987 ُ م بالمملكة وكانت خطورته تتمثل في شدته وسرعة انتشار العدوى بین الناس حیث .أصاب وقتھا ما لا یقل عن عشرة آلاف شخصاً 
ارتفاع الأسعار والغلاء ُ انقطع المصریون عن الحج في عھد الخلیفة العزیز بالله الفاطمي بسبب غلاء الأسعار حیث لم یتمكن أحد من أھل المشرق أو أھل مصر من الذھاب للحج في عام 419 ھـ، وحدث ذات الأمر خلال عام 421 ُ ھـ حیث تعطلت شعائر الحج فلم یتمكن من أدائه إلا ُ عدد قلیل من أھل العراق حیث ركبوا جمال الصحراء وصولاً لمكة، بینما كان الأمر أكثر شدة في عام 430 ھـ 
فلم یحج أحداً من .أھل الشام ولا مصر ولا أھل العراق وخراسان






الطقس السيء
حدث خلال عام 427 ھـ وفقاً ُ لما ذكره ابن الأثیر حیث اشتّد البرد في بلاد العراق لدرجة اختلاط المیاه بالأنھار الكبیرة مثل نھر دجلة قد تجمدت من شدة البرد، كما تجمدت السواقي بشكل كامل، ولم یسقط المطر كثیراً فلم یتمكن أھل العراق من الزراعة إلا قلیلاً .فتوقف الذھاب لأداء الحج من أھل العراق وخراسان لنكون بذلك قد عرضنا لكم أبرز الحوادث التي توقفت بھا أداء شعائر
الحج 



الاثنين، 20 يوليو 2020

الرشوة في التاريخ الإسلامي




عندما أراد الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان (602-680) استمالة عامله على المدينة عبد الرحمن بن أبي بكر (ت. 666) لمبايعة ابنه    يزيد (647-683)، أرسل إليه مئة ألف درهم، فرفض الأخير أخذها، وقال: "لا أبيع ديني بدنياي"، وخرج إلى مكة ومات فيها قبل أن تتم البيعة ليزيد.
ورغم عدم إتمام هذه الصفقة، إلا أن هذه الرواية التي ذكرها المؤرخ ابن الأثير في كتابه "أسد الغابة في معرفة الصحابة"، واحدة من روايات كثيرة شاهدة على أن الرشوة كانت سُلّماً للاستحواذ على المناصب السياسية في مراحل مختلفة من التاريخ الإسلامي.

الأمويون... حاشية ونساء
يروي مبارك حسن ذياب في دراسته "طرق وأساليب دفع الرشوة وأخذها في البلاد العربية الإسلامية لغاية سنة (656 هـ/ 1258 م)"، أن الرشوة لتحقيق الهدف السياسي المراد اتخذت أشكالاً مختلفة، فقُدّمت مثلاً إلى الوزراء والحُجاب وأعضاء الحاشية للتأثير على الخليفة لاتخاذ قرار معيّن
وضرب ذياب مثالاً من العصر الأموي، نقلاً عن أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري في كتابه "أنساب الأشراف"، مفاده أن حسان النبطي كان يسعى في تثبيت يوسف بن عمر (ت. 744) على ولاية العراق بينما أراد الوليد بن يزيد (709-744) عزله وتولية غيره، فقال حسان ليوسف: "لا بد لك من إصلاح أمر وزرائه وأصحابه، فقال له يوسف: أنت أعرف بالقوم ومنازلهم، ففرَّق عليهم حسان خمسمئة ألف درهم"، وبذلك تمكّن النبطي من استمالتهم بالأموال فأقنعوا ابن يزيد بالتراجع عن قراره.
وعرضت القصص التاريخية أن البعض كان يتعمّد رشوة نساء لتلبية طلباته، خاصة مَن كنّ مقرّبات من صاحب القرار كالأمهات أو الزوجات أو الجواري أو المحظيات اللواتي يتدخلن للتأثير عليه، علماً أن ما تذكره كتب التاريخ عن تأثيرات بعض النساء في السياسة غير موثوق ويقول البعض إن قصصهنّ كان يجري اختلاقها أو تضخيمها للحط من قدر الرجال، من منطلق ذكوري، فيما يقول بعض آخر إنها ناتجة عن مخيال شعبي يحب الربط بين النساء وحياكة الدسائس.
فقد ذكر البلاذري أن الخليفة يزيد بن عبد الملك (687-724) عُرف عنه حبّه المفرط للجارية حبابة، ولشدة تأثيرها عليه كانت وراء تعيين عمر بن هبيرة الفزاري على ولاية العراق، بعدما تقرّب إليها بالهدايا طالباً منها إقناع يزيد بتوليته.

العصر العباسي... الحُجاب الوسطاء

رغم تفشي ظاهرة الرشوة في العصر العباسي، سعياً للحصول على مناصب في الدولة وأهمها الوزارة، إلا أن الملاحظ أن الحُجاب كانوا أبرز مَن يُتجه إليهم في هذا الأمر.
روى محمد بن علي بن طباطبا العلوي المعروف بابن الطقطقي في كتابه "الفخري في الآداب السلطانية" أن الربيع بن يونس الحاجب توسط ليعقوب بن داود (ت. 802) لنيل الوزارة في عهد الخليفة أبو عبد الله محمد المهدي (754-785)، بعدما وعده ابن داود بمئة ألف دينار إنْ تولى المنصب، فنجح الربيع في إقناع المهدي بذلك.
وبحسب ذياب، لعب الرائش (الوسيط بين الراشي والمرتشي) دوراً في إتمام الكثير من الصفقات، منها ما رواه أحمد بن إسحق اليعقوبي في كتابه "تاريخ اليعقوبي" من أن طاهر بن الحسين كان يرغب في ولاية خراسان، فقدّم للوزير أحمد بن أبي خالد ثلاثة آلاف دينار ليكون وسيطاً بينه وبين عبد الله المأمون بن هارون الرشيد، ونجح في تحقيق ما أراده.
ومسّت الرشوة الخلفاء أنفسهم. دلل الدكتور أحمد عبد الرازق في كتابه "البذل والبرطلة زمن سلاطين المماليك" على ذلك بما رواه محمد بن جرير الطبري في "تاريخ الأمم والملوك" من أن الخليفة أبو محمد موسى الهادي (764-786) سعى إلى أخذ البيعة لابنه جعفر من هارون الرشيد (766-809)، وعرض عليه مقابل تنازله عن ولاية العهد ألف ألف دينار.
واستعان الخليفة محمد الراضي بالله (907-940) في إدارة شؤون دولته ببعض الوزراء الضعاف الذين كانوا يبذلون له الكثير من المال ليرفعهم إلى مرتبة الوزراء.
يذكر الدكتور عبد الله سالم في دراسته "منصب الوزارة وأحوالها في العصر العباسي الثاني"، المنشورة في العدد السادس من مجلة البحوث الأكاديمية عن جامعة مصراتة، أن أبا علي بن مقلة تقلد الوزارة للمرة الثالثة بعدما دفع للخليفة خمسمئة ألف دينار، غير أنه لم يتمتع بها طويلاً، إذ ثار عليه الجند وعُزل.
كما تمكن أحد التجار الأثرياء ويدعى أبو القاسم البغدادي من تولية أصهاره أبو الشجاع محمد بن الحسين ومؤيد الملك في منصب الوزارة لدى الخليفة المقتدي بأمر الله (1056-1094)، باذلاً الكثير من الرشاوي، حسبما روى خليل بن أيبك الصفدي في "الوافي بالوفيات".
وفي إطار التنافس على منصب الوزارة، لجأ البعض إلى تقديم الرشاوي لنساء كان لهن أثر على أصحاب القرار، مثل السيدة شغب أم الخليفة جعفر المقتدر بالله العباسي (895-932)، فقد ذكر أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي في في "المنتظم في تاريخ الأمم والملوك" أنها لعبت دوراً رئيساً في تولي أبو علي محمد بن عبيد الله بن الخاقاني الوزارة سنة 923 بعد أن قدّم لها مئة ألف دينار.
وبحسب أحمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه في "تجارب الأمم وتعاقب الهمم"، كان لنفس المرأة دور في تولي حامد بن العباس بن الفضل منصب الوزارة في عصر المقتدر، بعد أن وعدها بالمال.
ولعبت أم موسى القهرمانة التي كانت تدير الأمور مع الوزراء أيام المقتدر دوراً مشابهاً، إذ دفع لها ابن أبي البغل أموالاً كثيرة لتقنع المقتدر بتوليه الوزارة، وفق ما ذكر أبو الحسن الصابي في "تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء".
ويلفت عبد الرازق إلى أن كل وزير متى ما تقلد المنصب الذي يسعى إليه كان يضع في اعتباره استرداد ما دفعه بشتى أنواع الوسائل. وذكر ابن طباطبا أن الخاقاني، وزير المقتدر بالله، وُلّي الوزارة لمدة سنتين اشتهر خلالهما بكثرة التولية والعزل، إذ كان يعيّن في المنصب الواحد رجالاً كثيرين واحداً بعد الآخر، ولم يكن ذلك عن قلة تقدير للمسؤولية، بل ليأخذ من كل منهم رشوة.

البويهيون... شراء منصب الوزراة

ظهرت الرشوة بين البويهيين بأكثر من شكل وطريقة، منها الاتفاق المباشر بين الراشي والمرتشي بدون الاستعانة بوسيط بينهما
روى ياقوت الحموي في "معجم الأدباء" أن أبا علي الطبري، عامل الأهواز وأحد رجال الدولة البويهية، رغب في نيل الوزارة، وعرض في سبيل ذلك على الخليفة معز الدولة البويهي (915-967) مئتي ألف درهم، وحمل منها مئة وثمانين ألف درهم، وقال لمعز الدولة: "بقيت بقية يسيرة إذا ظهر أمري حملتها" إلا أن الخليفة رفض تحقيق رغبته قبل دفع المبلغ المتفق عليه كاملاً.
وحضر الوسيط أيضاً في بعض المواقف، فقد ذكر ابن مسكويه أن شيرزاد بن سرخاب كان مقرّباً من عز الدولة بختيار بن معز الدولة (943-978) ويسمع كلامه ويأخذ برأيه، لذا التجأ إليه أبو الفضل بن الحسين الشيرازي سنة 967 ليكون وسيطاً بينه وبين بختيار لنيل منصب الوزارة، وعرض عليه مبلغاً يدفعه له كل سنة، فتحقق له ما أراده.

الفاطميون... بيع الولايات
لم يشذّ العصر الفاطمي عن سابقيه، فشاعت الرشوة وأصبحت وسيلة لتبوؤ المناصب السياسية. تذكر الدكتورة تيسير محمد شادي في كتابها "الفساد في الدولة الفاطمية سياسياً وإدارياً واجتماعياً واقتصادياً"، أن الصالح طلائع بن رزيك الذي تولى الوزارة في عهد الخليفة الفائز بدين الله (1149-1160)، ثم العاضد لدين الله (1151-1171) كان شرهاً وحريصاً على تحصيل المال، فأخذ في بيع ولايات الأعمال للأمراء بأسعار مقررة عُرفت بـ"البراطيل" أي "الرشاوي"، وجعل لكل ولاية سعراً محدداً، وحدد مدة كل منها بستة أشهر فقط خوفاً من أن يثورو عليه الولاة.

المماليك... سلاطين مرتشون
ربما لم تشع الرشوة في عصر كما شاعت مثل عصر المماليك، فكانت الطريق الوحيد الموصل إلى الوظائف المهمة مثل "النيابة".
في ذلك العصر، برز منصب نائب السلطنة، ويروي عبد الرازق أنه كان بمثابة الرجل الثاني في الدولة لقيامه مقام السلطان أثناء غيابه ولاشتراكه معه في توزيع الإقطاعات وتعيين الموظفين بل وفي الحكم في كل ما يحكم فيه السلطان.
وكان نواب القلعة وأقاليم مصر والشام يولون عن طريق البذل والبرطلة. يذكر تقي الدين المقريزي في "السلوك لمعرفة دول الملوك" أن السلطان الأشرف شعبان استدعى سنة 1376 الأمير صلاح الدين خليل بن عرام، نائب الإسكندرية، فقبض عليه وصادر ممتلكاته، ولم يعده إلى منصبه إلا بعدما تلقى منه مليون درهم.
وسنة 1399، أصدر السلطان الظاهر برقوق مرسوماً سلطانياً بتعيين الأمير فرج الحلبي نائباً للإسكندرية، مقابل رشوة قدرها أربعمئة ألف درهم.
وأعاب المؤرخ ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة في مصر والقاهرة" على السلطان المؤيد شيخ توليته نيابة الإسكندرية سنة 1416 لعلاء الدين قطلوبغا عن طريق الرشوة، وكتب: "صار لا يترقى في هذه الدول إلا من يبذل المال، ولو كان من أوباش السوقة لشره الملوك في جمع الأموال".
أما نيابة دمشق، فكانت دائماً موضع سعي ومزايدة بين أمراء المماليك، نظراً لما كان لمتوليها من سلطة ونفوذ على باقي نيابات المملكة الشامية، لذا اهتم كثيرون من النواب بإهداء السلاطين من حين إلى آخر هدايا نفيسة حتى يحتفظوا بمناصبهم لأطول فترة ممكنة.
ففي سنة 1376، قدِم الأمير سيف الدين بيدمر إلى مصر وبصحبته هدية للملك الأشرف شعبان لم يُعهد بمثلها، فثبّته في منصبه بعد أن كان مهدداً بتركه.
والغريب أن الأشرف عزل بيدمر في السنة التالية، لكن الأخير عقد العزم على العودة إلى نيابته مهما كلفه الأمر، ويبدو أنه نجح في مساعيه بدليل أن مؤرخي تلك الفترة سجلوا توليه هذا المنصب ست مرات آخرها سنة 1381، وذلك عن طريق البذل والبرطلة حسبما روى عبد الرازق.
ويتحدث بردي عن الأمير تنم الحسني الذي اتبع أسلوب المهاداة من أجل الاحتفاظ بوظيفته، ويروي أنه أهدى للسلطان برقوق سنة 1396 هدية جليلة، منها عشرة مماليك صغار، وعشرة آلاف دينار وثلاثمئة ألف درهم فضة، وسيف من الذهب ومئة وخمسين فرساً، فأمر السلطان باستمراره على نيابته لدمشق.
وروى المقريزي أن الأمير سودون بن عبد الرحمن قدّم للسلطان الأشرف برسباي سنة 1426 رشوة كبيرة، هي عبارة من 15 ألف دينار وقماش وفرو بقيمة ثلاثة آلاف دينار، ومع ذلك استدعاه السلطان إلى القاهرة سنة 1429، فاضطر إلى تقديم هدية أخرى، لكن السلطان نصحه بضرورة مهاداة بقية أمراء الدولة أيضاً.
ظل سودون في القاهرة في انتظار أن يأذن له السلطان بالعودة إلى مقر نيابته إلا أن إقامته طالت، وبدأ يدور همس في أرجاء القصر بأن السلطان ينوي عزله وإبقاءه بمصر. عندئذ لم يجد الأمير سوى الاستعانة بسلاح المال، فدفع له 25 ألف دينار، ووعد بمثلها، فأمر الأشرف بعودته إلى مقر نيابته في دمشق.
وتجدر الإشارة إلى أنه لا يمكن الثقة بشكل أعمى بالقصص التي تعجّ بها الكتب التراثية العربية، إذ لم يكن الكتاب والمؤرخون يتحرّون الدقة في تناقلهم للأخبار ولم يهتموا بالتدقيق فيها، كما أن جزءاً كبيراً من هذه القصص وُضع لتشويه صورة خليفة أو قائد ما أو حقبة ما...







الأحد، 1 أبريل 2018

دار سبيطار.....محمد ديب




المجمع السكني "دار سبيطار" الذي يضم مجموعة كبيرة من السكان معظمهم من الفقراء الذين لا يجدون قوت يومهم، وضمن هذا
التجمع تدور أحداث الرواية "الدار الكبيرة" بطل الرواية الطفل عمر الذي لا يتجاوز الاثني عشر عاما، وأمه "عيني" التي تكافح
لكي تطعم ولدها وابنتاها









يتناول الكاتب أوضاع المجتمع الجزائري من خلال تناول الأشخاص في هذا المجمع السكني وكيف كانوا يعيشون 
ويفكرون ويتعاملون مع بعضهم البعض ,  واقع الإستيطان الإستعماري شديد الوطأة على الشعب , حيث أن هذا 
الإستعمار يتعامل مع المواطنين معاملة دونية  
من هنا تكون المشاعر الوطنية حية لكنها لا تظهر علانية، وذلك بسبب القسوة التي يعامل بها ..المحتل المواطنين، فها هو الأستاذ حسن يتخطى حاجز المحذور ويتكلم للطلاب بالعربية
المحذورة، موضحا لهم بان وطنهم ليس فرنسا "ـ
المحتل المواطنين، فها هو الأستاذ حسن يتخطى حاجز المحذور ويتكلم للطلاب بالعربية المحذورة، موضحا لهم بان وطنهم ليس فرنسا "ـ

وهكذا لم يعلم الصبية ما هو وطنهم" ص25، الصراع بين قول الحقيقة والصمت كان يشكل هاجسا عند المعلم، من هنا قال شيئا ولم يجرؤ على إكماله، وهذه مسألة في غاية الخطورة، لكن القليل الذي قدمه للطلاب جعلهم يعيدوا التفكير فيما يدرس لهم، وهذا كافا، إذا ما أضيف له المعاملة السيئة التي يتلقها المواطنون من المحتل.
فهنا طرح الكاتب بان الأستاذ حسن إنسان يشعر بالخوف وأيضا بالرغبة في التحرر من قبضة الاحتلال وتعاليمه المزيفة، فشخصيات الرواية هي بشرية وليست (سوبر) وهذا ما جعلها اقرب إلى الواقعية، فالرواية هي واقعية بامتياز، لا يوجد فيها إي رمزية ، كما أن أحداثها اقرب إلى الوقائع التاريخية، التي عانى منها الشعب الجزائري.


الرجل السلبي
الكاتب قدم لنا صورة الرجل السلبي، فمن خلال حديث النساء العاملات والمكافحات في سبيل لقمة العيش عن الرجال، كان يصفهم بشكل شبة دائم بالتخاذل والتقاعس وعدم الأقدم على العمل، فها هي "عيني" تتحدث لولدها عمر عن والده بصورة تحمل الحنق والقهر والبؤس، ليس على الوالد وحسب بل على الأوضاع والاستعمار أيضا "ـ هذا كل ما تركه لنا أبوك، ذلك الرجل لا يصلح لشيء، ترك لنا البؤس، غيب وجهه في التراب، وسقطت علي جميع أنواع الشقاء، ... هو الآن هادئ في قبره.. لم يفكر يوما في ادخار قرش واحد.. وها انتم تتشبثون بي كالعلق الذي يمتص الدم ... لقد كنت غبية .. كان ينبغي أن أترككم في الشارع، أن اهرب إلى جبل خال مقفر" ص30، من خلال هذا الكلام نستدل على الحالة المزرية التي تعيشها العائلة، فلا معيل لها سوى المرأة، هي من يوفر الاحتياجات لها، ورغم تواضع هذه المتطلبات وقلتها إلا أن من يستطيع في ظل الاحتلال أن يجلب رغيف الخبز يكون قد أنجز أمرا عظيما.
لم تكن الأم "عيني" تكلم ولدها بهذه الكيفية فقط، بل أيضا تكلمت مع أمها "الجدة" بطريقة اشد وأكثر قسوة، وكأنها ليست ابنتها، بل امرأة من خارج العائلة، "كانت عيني منتصبة على ركبتيها تقذف حقدها في وجه الجدة .. 
ـ ليت الموت يأخذك. لماذا لم ترفضي أن يحملوك إلى هنا؟ 
ـ ماذا كان بوسعي أن افعله يا ابنتي؟
ـ امرأته هي التي أرسلتك إلي، انه مستعد لان يلعق قدميها، أنها هي من تعمل لتطعمه، أما هو فيقضي وقته في التسكع بين المقاهي .. ابن الكلب .. " ص31، صورة أخرى عن الرجل المتعالي على زوجته، القاعد مع القاعدين، بلا عمل أو فعل مفيد، يترك زوجته تعمل. "عيني" تتناول الرجال ـ الزوج والأخ ـ بسلبية، وكأن الرجال في المجتمع الجزائري إبان الاحتلال لم يكونوا يصلحوا إلا للجنس فقط، فهم كسالى أتكالين لا يعملون.
ومع هذا الواقع غير السوي تحمل "عيني" أفكار المجتمع ألذكوري بامتياز، فهي كامرأة شرقية تفكر بان السيادة يجب أن تكون للرجل، رغم أن الواقع يفند هذه الأفكار، فمن خلال زوجها الذي مات دون أن يترك لها قرشا واحد، إلى أخاها القاعد والمتواكل على زوجته، إلى رجال المجمع السكني، الذين لا يصلحون لشيء، ومع كل السلبيات تفكر بالرجل القادم، ابنها عمر، "متى يكبر عمر، ابنها، فيحمل عنها بعض هذا العبء؟ البنت لا يمكن الاعتماد عليها. وإنما يجب إطعامها، حتى إذا شبت عن الطوق أصبح واجبا أن نراقبها مراقبة دقيقة، فهي في سن البلوغ أسوأ من حية، فما أن تغفلي عنها قليلا حتى ترتكب الحماقات. ثم لا بد لك أن تقصدي عروقك حتى تهيئي لها جهازا قبل أن تتخلصي منها" ص72، رغم أن أبطال الرواية هن من النساء، لا أن السرد يؤكد بان أفكار المجتمع ألذكوري الأبوي هي المسيطرة، فهل هذا مقصود من الكاتب؟ أم انه وقع في خلط ـ السرد ـ ولم ينتبه لا إن المتحدث امرأة، فكان لا بد من أن تحمل أفكارها وليس أفكار المجتمع؟
اعتقد بان الرواية الواقعية ترسم الواقع كما هو مع إضافة التحسينات والصور الأدبية والفنية، من هنا كان الكاتب يصر على إعطائنا صورة واقعية عن المجتمع الجزائري والطريقة التي يفكر بها، فهنا كانت المرأة ليست أكثر من منتجة، لا لكنها غير متحررة فكريا، من هنا وجدنها أسيرة المجتمع وأفكاره.
الطفل في ظل الاحتلال والجوع
الأطفال في ظل الاحتلال يكون أكثر من غيرهم عرضة للقمع والسوء المعاملة، إن كانت من المحتل نفسه، أم من الأهل، الذين يعتبرون أطفالهم المتنفس لهم، فتنعكس حالة القمع التي يعانون منها في سلوكهم مع أطفالهم، فنجدهم يفرغون كل الكبت والقهر على هؤلاء الأطفال، وكأنهم ـ الأطفال ـ هم من يقوم يقمع الأهل وليس الآخر المحتل، كما إن الأطفال بطبيعتهم البسيطة يرفضون القمع والاضطهاد مهما كان فاعله، وأيا كانت دافعه، من هنا يقوم عمر بالتمرد على حالة القمع التي تمارسها أمه "عيني" على الجدة فيثور عليها قولا وفعلا، متجاهلا بان من يثور عليها هي أمه، "وهرب. فأسرعت تركض وراءه، لكنه اجتاز فناء البيت بوثبة واحدة..
ـ اخرسي يا ... عاهرة
... ـ يلعن أبوك، يا ملعونة، تلعن أمك.." ص33، اعتقد بان حالة الاجتماعية والاقتصادية وما تشكله من أفكار ومفاهيم عند الأفراد مسألة تلعب دورا حيويا في السلوك، فعمر الذي يعاني الجوع والقهر والفقر وفقدان الأب، لا بد أن يكون بهذه القسوة اتجاه أمه، فهي من خلال معاملتها القاسية للجدة جعلت مشاعر ابنها عمر تتأجج، فهي لم تكن ضد الأم ولكنها ضد سلوكها السيئ.
فبعد أن يغادر البيت تبدأ مشاعر الطفولة تتحرك فيه، ويأخذ في طرح النواقص التي يعاني منها كانسان وكطفل "كان في تلك اللحظات يتمنى لو يعثر على أبيه، أبيه الميت، ولكن الحقيقة التي اكتشفها كانت لا تطاق، أن أباه لن يعود أبدا ألبه، ما من احد يستطيع أن يرد إليه أباه" ص33، حالة الطفل في الحضيض، فكريا وواقعيا، بلا مأوى، جوع، برد، الخوف من القمع والضرب، الحرمان من الأب، كلها تجتمع في حالة عمر، فهو هنا لا يشكل حالة الطفل العادي، بل الطفل غير العادي، الطفل الذي يعيش في ظل الاحتلال والواقع الاجتماعي المتخلف والفقير في ذات الوقت.


صورة الشرطي
لعل الكثير من الأعمال الأدبية، إن كانت رواية أو قصة أو مسرحية أو قصيدة، في مجملها تقدم الصورة السلبية لرجال الشرطة، فهم باستمرار يشكلون أداة القمع والبطش التي تعمل بالناس الشر والقهر، وأقولها بتواضع بأنني لم اقرأ نصا يحمد هؤلاء القساة أبدا، من هنا سنجد حالة طبيعية أن يقدم رجال الشرطة في ظل الاحتلال بصورة سلبية، فها هو الطفل عمر يصاب بالرعب لمجرد أن ذكروا "ـ الشرطة .. الشرطة .. ها هم الشرطة..
وقال بينه وبين نفسه : "ماما" أتوسل إليك، لن اضائقك بعد الآن، احميني، احميني.. تمنى في عنف وحرارة أن تكون أمه "عيني" إلى جانبه" ص38، حالة من الرعب يعاني منها عمر، فهنا الطفل يعكس لنا صورة الرعب التي أوجدوها رجال الشرطة في ذهنه، فهم من خلال سلوكهم القاسي تركوا هذا الإرهاب في الأطفال والمجتمع ككل، "أن رجال الشرطة ينبشون الأوراق التي كان حميد سراج قد جمعها عند أخته، كانوا يجمعون هذه الأوراق، ومن اجل ذلك قلبوا الغرفة عاليها سافلها" ص42، هكذا هم رجال الشرطة، أداة التخريب والتكسير والتحطيم، ويقومون بضرب الناس واعتقالهم، من هنا لا يوجد لهم لا الصورة السلبية، خاصة في المجتمعات التي تعاني من الاحتلال والتخلف.
وها هي فاطمة أخت حميد سراج تقول متحسرة على أخيها، الذي سيكون تحت التعذيب الجسدي والنفسي عند المحتل "ويلي عليك يا أخي .. ما الذي سيقع لك؟ .. ما الذي سيصنعونه بك؟ .. ويلي عليك يا أخي .." ص42، أعمال القمع والاعتقال تترك أثرا بليغا في الشخص المعتقل وزوجته وأبنائه وجيرانه وكل من يشاهد عملية الاعتقال، من هنا تركت هذه العملية أثرا لا يمحى من ذاكرة الطفل عمر، الذي يمثل خلية نشطة، تتأثر ـ سلبا أو إيجابا ـ بكل ما يشاهد ويسمع، "كان عمر حائرا لا يعرف كيف يمكن أن يقدم معونة ما، رجال الشرطة يملأون الدار الكبيرة بحركتهم، ترى متى يذهبون... أصبح عمر لا يطلب قطعة الخبز مغموسة في الماء العين، حين تنصب علينا الكوارث، نذهل عن الجوع، أصبح عمر لا يفكر، لقد تضامن جوعه ـ أصبح جوعه الآن بعيدا، لم يبقى منه فيه إلا ما يشبه غثيانا غامضا لا يهدأ.
اصابه دوارا، كان يمضغ لعابه ويبلعه، أن هذا يولد في نفسه ميلا غريبا إلى القيء، انه لا يجد في نفسه إلا فراغا" ص42 و43، حالة الغثيان تصيب المحبط الخائف غير القادر على الفعل، مهما كان هذا فعل، عمل أو قول.
شدة القمع والقهر والخوف تسبب حالة الغثيان، ذروة الخوف تقع ليس على المعتقل وإنما من شاهد عملية الاعتقال، فما بالنا بأهل المعتقل والمعتقل نفسه!

الطرح الطبقي
في حالة الاحتلال لا بد أن يكون هناك الجوع والفقر هو الطاغي على المجتمع، من هنا لا بد من وجود من يقدم البديل لها الوضع، البديل الذي يبحث في تقديم الحياة الكريمة للمواطن، وتحقيق سبل العيش التي تمثل ابسط الحقوق للإنسان،ة"إن العمال الزراعيين أصبحوا لا يستطيعون أن يعيشوا بهذه الأجور الزهيدة التي يتقاضونها ... يجب أن نتخلص من هذا البؤس .. العمال الزراعيون هم أولى ضحايا الاستغلال الذي يعبث في بلادنا فسادا" ص94، المسألة الاقتصادية من أهم المسائل التي تشغل الأفراد والجماعات، من هنا قدمها محمد ديب بكل وضوح، إن كان من خلال السرد الروائي الذي يعطي مدلولا واضحا عن الحالة الاقتصادية البائسة أم من خلال كلمات الخطيب الذي تحدث بكل صراحة عن الواقع المزري


فكرة الخلاص "القادم من الخارج"
عند العديد من المجتمعات التي تعاني القهر تفكر بطريقة غير سوية، فهي تتجاهل دورها في تحرير ذاتها، وتنتظر القادم من الخارج كي يخلصها مما هي فيه، فهناك فكرة يتداولها بعض الفلسطينيين بان خلاصهم سيكون من جهة الشرق، أن هذا المخلص سيجمع الأمة ويقتل الأعور الدجال، فهنا نجد دعوة بطريقة غير مباشر للانتظار والترقب لقدوم هذا المخلص، وهذا ما فعله الشعب الجزائري إبان الاحتلال الفرنسي، فهم تشبثوا بالقادم الخارجي وجعلوا منه مخلصا "إن هذا الرجل الذي اسمه هتلر قوي قوة هائلة لا يستطيع احد أن يقيس نفسه بقوته، هو ماض يستولي على العالم كله، وسيكون ملك العالم كله، وهذا الرجل يبلغ هذا المبلغ من القوة صديق للمسلمين فمتى وصل إلى شواطئ هذه البلاد أدرك المسلمون كل ما يتمنون، وحظوا بسعادة كبرى، انه سيحرم اليهود من أملاكهم، فهو لا يحبهم، ولسوف يقتلهم، سيكون حامي الإسلام، وسيطرد الفرنسيين، ثم أن الحزام الذي يشد جسمه قد كتب عليه :لا اله إلا الله محمد رسول الله" ص136، التخلف لا يقدم إلا الأفكار المتخلفة، في هذا المشهد الذي تكرر في العراق والسودان واليمن وليبيا وسوريا وكل من راهن على المحرر الخارجي، لا ندري لماذا نحن في المنطقة العربية دائما كنا نتعاطى مع مسألة الخلاص من الظلم أو الاحتلال بالخارج وليس فينا نحن؟ هل تركيبتنا الفكرية هي السبب، أم أن الإيمان له علاقة بهذا الأمر؟

الحبكة والسيطرة على الحدث الروائي
في بداية الرواية ينحدث الكاتب عن الجدة وكيف أنها تشكل عبئا اقتصاديا على "عيني" او على أخيها، لكن في زخمة الاحداث الروايئة ينسى الكاتب هذه الجدة، ويعود الى تذكرنا بها في نهاية الرواية، فالكاتب كان قد نسى شخصبة الجدة لكنه تدارك الامر في النهاية، في المجمل تكمن اهمية مثل هذه الأعمال في تقديمها مادة أدبية بمضمون تاريخي، مما يعطي المتلقي صورة حية عن تلك الفترة من الزمن.