عندما أراد الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان (602-680) استمالة عامله على المدينة عبد الرحمن بن أبي بكر (ت. 666) لمبايعة ابنه يزيد (647-683)، أرسل إليه مئة ألف درهم، فرفض الأخير أخذها، وقال: "لا أبيع ديني بدنياي"، وخرج إلى مكة ومات فيها قبل أن تتم البيعة ليزيد.
ورغم عدم إتمام هذه الصفقة، إلا أن هذه الرواية التي ذكرها المؤرخ ابن الأثير في كتابه "أسد الغابة في معرفة الصحابة"، واحدة من روايات كثيرة شاهدة على أن الرشوة كانت سُلّماً للاستحواذ على المناصب السياسية في مراحل مختلفة من التاريخ الإسلامي.
الأمويون... حاشية ونساء
يروي مبارك حسن ذياب في دراسته "طرق وأساليب دفع الرشوة وأخذها في البلاد العربية الإسلامية لغاية سنة (656 هـ/ 1258 م)"، أن الرشوة لتحقيق الهدف السياسي المراد اتخذت أشكالاً مختلفة، فقُدّمت مثلاً إلى الوزراء والحُجاب وأعضاء الحاشية للتأثير على الخليفة لاتخاذ قرار معيّن
وضرب ذياب مثالاً من العصر الأموي، نقلاً عن أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري في كتابه "أنساب الأشراف"، مفاده أن حسان النبطي كان يسعى في تثبيت يوسف بن عمر (ت. 744) على ولاية العراق بينما أراد الوليد بن يزيد (709-744) عزله وتولية غيره، فقال حسان ليوسف: "لا بد لك من إصلاح أمر وزرائه وأصحابه، فقال له يوسف: أنت أعرف بالقوم ومنازلهم، ففرَّق عليهم حسان خمسمئة ألف درهم"، وبذلك تمكّن النبطي من استمالتهم بالأموال فأقنعوا ابن يزيد بالتراجع عن قراره.
وعرضت القصص التاريخية أن البعض كان يتعمّد رشوة نساء لتلبية طلباته، خاصة مَن كنّ مقرّبات من صاحب القرار كالأمهات أو الزوجات أو الجواري أو المحظيات اللواتي يتدخلن للتأثير عليه، علماً أن ما تذكره كتب التاريخ عن تأثيرات بعض النساء في السياسة غير موثوق ويقول البعض إن قصصهنّ كان يجري اختلاقها أو تضخيمها للحط من قدر الرجال، من منطلق ذكوري، فيما يقول بعض آخر إنها ناتجة عن مخيال شعبي يحب الربط بين النساء وحياكة الدسائس.
فقد ذكر البلاذري أن الخليفة يزيد بن عبد الملك (687-724) عُرف عنه حبّه المفرط للجارية حبابة، ولشدة تأثيرها عليه كانت وراء تعيين عمر بن هبيرة الفزاري على ولاية العراق، بعدما تقرّب إليها بالهدايا طالباً منها إقناع يزيد بتوليته.
العصر العباسي... الحُجاب الوسطاء
رغم تفشي ظاهرة الرشوة في العصر العباسي، سعياً للحصول على مناصب في الدولة وأهمها الوزارة، إلا أن الملاحظ أن الحُجاب كانوا أبرز مَن يُتجه إليهم في هذا الأمر.
روى محمد بن علي بن طباطبا العلوي المعروف بابن الطقطقي في كتابه "الفخري في الآداب السلطانية" أن الربيع بن يونس الحاجب توسط ليعقوب بن داود (ت. 802) لنيل الوزارة في عهد الخليفة أبو عبد الله محمد المهدي (754-785)، بعدما وعده ابن داود بمئة ألف دينار إنْ تولى المنصب، فنجح الربيع في إقناع المهدي بذلك.
وبحسب ذياب، لعب الرائش (الوسيط بين الراشي والمرتشي) دوراً في إتمام الكثير من الصفقات، منها ما رواه أحمد بن إسحق اليعقوبي في كتابه "تاريخ اليعقوبي" من أن طاهر بن الحسين كان يرغب في ولاية خراسان، فقدّم للوزير أحمد بن أبي خالد ثلاثة آلاف دينار ليكون وسيطاً بينه وبين عبد الله المأمون بن هارون الرشيد، ونجح في تحقيق ما أراده.
ومسّت الرشوة الخلفاء أنفسهم. دلل الدكتور أحمد عبد الرازق في كتابه "البذل والبرطلة زمن سلاطين المماليك" على ذلك بما رواه محمد بن جرير الطبري في "تاريخ الأمم والملوك" من أن الخليفة أبو محمد موسى الهادي (764-786) سعى إلى أخذ البيعة لابنه جعفر من هارون الرشيد (766-809)، وعرض عليه مقابل تنازله عن ولاية العهد ألف ألف دينار.
واستعان الخليفة محمد الراضي بالله (907-940) في إدارة شؤون دولته ببعض الوزراء الضعاف الذين كانوا يبذلون له الكثير من المال ليرفعهم إلى مرتبة الوزراء.
يذكر الدكتور عبد الله سالم في دراسته "منصب الوزارة وأحوالها في العصر العباسي الثاني"، المنشورة في العدد السادس من مجلة البحوث الأكاديمية عن جامعة مصراتة، أن أبا علي بن مقلة تقلد الوزارة للمرة الثالثة بعدما دفع للخليفة خمسمئة ألف دينار، غير أنه لم يتمتع بها طويلاً، إذ ثار عليه الجند وعُزل.
كما تمكن أحد التجار الأثرياء ويدعى أبو القاسم البغدادي من تولية أصهاره أبو الشجاع محمد بن الحسين ومؤيد الملك في منصب الوزارة لدى الخليفة المقتدي بأمر الله (1056-1094)، باذلاً الكثير من الرشاوي، حسبما روى خليل بن أيبك الصفدي في "الوافي بالوفيات".
وفي إطار التنافس على منصب الوزارة، لجأ البعض إلى تقديم الرشاوي لنساء كان لهن أثر على أصحاب القرار، مثل السيدة شغب أم الخليفة جعفر المقتدر بالله العباسي (895-932)، فقد ذكر أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي في في "المنتظم في تاريخ الأمم والملوك" أنها لعبت دوراً رئيساً في تولي أبو علي محمد بن عبيد الله بن الخاقاني الوزارة سنة 923 بعد أن قدّم لها مئة ألف دينار.
وبحسب أحمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه في "تجارب الأمم وتعاقب الهمم"، كان لنفس المرأة دور في تولي حامد بن العباس بن الفضل منصب الوزارة في عصر المقتدر، بعد أن وعدها بالمال.
ولعبت أم موسى القهرمانة التي كانت تدير الأمور مع الوزراء أيام المقتدر دوراً مشابهاً، إذ دفع لها ابن أبي البغل أموالاً كثيرة لتقنع المقتدر بتوليه الوزارة، وفق ما ذكر أبو الحسن الصابي في "تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء".
ويلفت عبد الرازق إلى أن كل وزير متى ما تقلد المنصب الذي يسعى إليه كان يضع في اعتباره استرداد ما دفعه بشتى أنواع الوسائل. وذكر ابن طباطبا أن الخاقاني، وزير المقتدر بالله، وُلّي الوزارة لمدة سنتين اشتهر خلالهما بكثرة التولية والعزل، إذ كان يعيّن في المنصب الواحد رجالاً كثيرين واحداً بعد الآخر، ولم يكن ذلك عن قلة تقدير للمسؤولية، بل ليأخذ من كل منهم رشوة.
البويهيون... شراء منصب الوزراة
ظهرت الرشوة بين البويهيين بأكثر من شكل وطريقة، منها الاتفاق المباشر بين الراشي والمرتشي بدون الاستعانة بوسيط بينهما
روى ياقوت الحموي في "معجم الأدباء" أن أبا علي الطبري، عامل الأهواز وأحد رجال الدولة البويهية، رغب في نيل الوزارة، وعرض في سبيل ذلك على الخليفة معز الدولة البويهي (915-967) مئتي ألف درهم، وحمل منها مئة وثمانين ألف درهم، وقال لمعز الدولة: "بقيت بقية يسيرة إذا ظهر أمري حملتها" إلا أن الخليفة رفض تحقيق رغبته قبل دفع المبلغ المتفق عليه كاملاً.
وحضر الوسيط أيضاً في بعض المواقف، فقد ذكر ابن مسكويه أن شيرزاد بن سرخاب كان مقرّباً من عز الدولة بختيار بن معز الدولة (943-978) ويسمع كلامه ويأخذ برأيه، لذا التجأ إليه أبو الفضل بن الحسين الشيرازي سنة 967 ليكون وسيطاً بينه وبين بختيار لنيل منصب الوزارة، وعرض عليه مبلغاً يدفعه له كل سنة، فتحقق له ما أراده.
الفاطميون... بيع الولايات
لم يشذّ العصر الفاطمي عن سابقيه، فشاعت الرشوة وأصبحت وسيلة لتبوؤ المناصب السياسية. تذكر الدكتورة تيسير محمد شادي في كتابها "الفساد في الدولة الفاطمية سياسياً وإدارياً واجتماعياً واقتصادياً"، أن الصالح طلائع بن رزيك الذي تولى الوزارة في عهد الخليفة الفائز بدين الله (1149-1160)، ثم العاضد لدين الله (1151-1171) كان شرهاً وحريصاً على تحصيل المال، فأخذ في بيع ولايات الأعمال للأمراء بأسعار مقررة عُرفت بـ"البراطيل" أي "الرشاوي"، وجعل لكل ولاية سعراً محدداً، وحدد مدة كل منها بستة أشهر فقط خوفاً من أن يثورو عليه الولاة.
المماليك... سلاطين مرتشون
ربما لم تشع الرشوة في عصر كما شاعت مثل عصر المماليك، فكانت الطريق الوحيد الموصل إلى الوظائف المهمة مثل "النيابة".
في ذلك العصر، برز منصب نائب السلطنة، ويروي عبد الرازق أنه كان بمثابة الرجل الثاني في الدولة لقيامه مقام السلطان أثناء غيابه ولاشتراكه معه في توزيع الإقطاعات وتعيين الموظفين بل وفي الحكم في كل ما يحكم فيه السلطان.
وكان نواب القلعة وأقاليم مصر والشام يولون عن طريق البذل والبرطلة. يذكر تقي الدين المقريزي في "السلوك لمعرفة دول الملوك" أن السلطان الأشرف شعبان استدعى سنة 1376 الأمير صلاح الدين خليل بن عرام، نائب الإسكندرية، فقبض عليه وصادر ممتلكاته، ولم يعده إلى منصبه إلا بعدما تلقى منه مليون درهم.
وسنة 1399، أصدر السلطان الظاهر برقوق مرسوماً سلطانياً بتعيين الأمير فرج الحلبي نائباً للإسكندرية، مقابل رشوة قدرها أربعمئة ألف درهم.
وأعاب المؤرخ ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة في مصر والقاهرة" على السلطان المؤيد شيخ توليته نيابة الإسكندرية سنة 1416 لعلاء الدين قطلوبغا عن طريق الرشوة، وكتب: "صار لا يترقى في هذه الدول إلا من يبذل المال، ولو كان من أوباش السوقة لشره الملوك في جمع الأموال".
أما نيابة دمشق، فكانت دائماً موضع سعي ومزايدة بين أمراء المماليك، نظراً لما كان لمتوليها من سلطة ونفوذ على باقي نيابات المملكة الشامية، لذا اهتم كثيرون من النواب بإهداء السلاطين من حين إلى آخر هدايا نفيسة حتى يحتفظوا بمناصبهم لأطول فترة ممكنة.
ففي سنة 1376، قدِم الأمير سيف الدين بيدمر إلى مصر وبصحبته هدية للملك الأشرف شعبان لم يُعهد بمثلها، فثبّته في منصبه بعد أن كان مهدداً بتركه.
والغريب أن الأشرف عزل بيدمر في السنة التالية، لكن الأخير عقد العزم على العودة إلى نيابته مهما كلفه الأمر، ويبدو أنه نجح في مساعيه بدليل أن مؤرخي تلك الفترة سجلوا توليه هذا المنصب ست مرات آخرها سنة 1381، وذلك عن طريق البذل والبرطلة حسبما روى عبد الرازق.
ويتحدث بردي عن الأمير تنم الحسني الذي اتبع أسلوب المهاداة من أجل الاحتفاظ بوظيفته، ويروي أنه أهدى للسلطان برقوق سنة 1396 هدية جليلة، منها عشرة مماليك صغار، وعشرة آلاف دينار وثلاثمئة ألف درهم فضة، وسيف من الذهب ومئة وخمسين فرساً، فأمر السلطان باستمراره على نيابته لدمشق.
وروى المقريزي أن الأمير سودون بن عبد الرحمن قدّم للسلطان الأشرف برسباي سنة 1426 رشوة كبيرة، هي عبارة من 15 ألف دينار وقماش وفرو بقيمة ثلاثة آلاف دينار، ومع ذلك استدعاه السلطان إلى القاهرة سنة 1429، فاضطر إلى تقديم هدية أخرى، لكن السلطان نصحه بضرورة مهاداة بقية أمراء الدولة أيضاً.
ظل سودون في القاهرة في انتظار أن يأذن له السلطان بالعودة إلى مقر نيابته إلا أن إقامته طالت، وبدأ يدور همس في أرجاء القصر بأن السلطان ينوي عزله وإبقاءه بمصر. عندئذ لم يجد الأمير سوى الاستعانة بسلاح المال، فدفع له 25 ألف دينار، ووعد بمثلها، فأمر الأشرف بعودته إلى مقر نيابته في دمشق.
وتجدر الإشارة إلى أنه لا يمكن الثقة بشكل أعمى بالقصص التي تعجّ بها الكتب التراثية العربية، إذ لم يكن الكتاب والمؤرخون يتحرّون الدقة في تناقلهم للأخبار ولم يهتموا بالتدقيق فيها، كما أن جزءاً كبيراً من هذه القصص وُضع لتشويه صورة خليفة أو قائد ما أو حقبة ما...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق