الاثنين، 4 نوفمبر 2013

لماذا مات سقراط؟



روبن ووترفيلد مترجم وباحث وأستاذ للفلسفة اليونانية القديمة. وكتابه "لماذا مات سقراط: تبديد الأساطير" هو سرد كاشف ومفصّل عن الأسباب والتداعيات التي أطاحت بالفيلسوف الأهمّ والأشهر في العالم.
في الكتاب، يحاول المؤلّف رسم صورة لمجتمع أثينا خلال السنوات الثلاثين التي سبقت محاكمة سقراط والتي انتهت بإعدامه في العام 399 قبل الميلاد.
الصورة التي لدينا اليوم عن المحاكمة وعن الرجل نقلها أتباع سقراط المباشرون، أي أفلاطون وزينوفون الرواقيّ، وتكرّست في العديد من الأعمال الأدبيّة والفنّية من ذلك العصر. وهي صورة لرجل نبيل يهمّ بتناول كأس من الشراب السامّ بعد أن حكمت عليه ديمقراطية أثينا القديمة بالإعدام ظلماً.
لكن ووترفيلد يشير إلى أن هذه الصورة ليست حقيقية تماما بعد أن خالطها الكثير من الخرافات والأساطير التي سرعان ما تحوّلت بالتواتر إلى حقائق تاريخية لا تقبل الشكّ. وربّما لهذا السبب ما تزال قصّة حياة وموت سقراط تفتن الناس وتثير كثيرا من الجدل والتكهّنات.
كانت المحاكمة في جزء منها استجابة لعصر مضطرب. فقد كانت أثينا في ذلك الوقت تعاني من آثار هزيمتها في الحرب مع سبارتا وتمرّ بتغييرات اجتماعية عاصفة. فرَق القتل والمصادرات، ومن ثمّ الحرب الأهلية كانت بعض أعراض الطغيان المدعوم من سبارتا. ثم لم يلبث أن انتشر وباء التيفويد الذي أدّى إلى مقتل حوالي ربع سكّان المدينة. لكن مع نجاح الأثينيين في استعادة الديمقراطية أخيرا، بدأت عملية تسوية حسابات. والمؤسف أن بعض أفراد الدائرة المقرّبة من سقراط لم يكونوا بعيدين تماما عن تلك المشاكل. لذا بادر الديمقراطيون الجدد إلى توجيه التهم له بالمعصية وإفساد الشباب والدعوة لعبادة آلهة جديدة.
ووترفيلد درس العديد من المصادر اليونانية الفعلية من تلك الفترة. وهو يرى أن تهمتي المعصية وإفساد شباب أثينا كانتا بالفعل كافيتين لإصدار حكم بالموت على سقراط. غير أن الادّعاء اتّهمه بما هو أكثر. فقد رأى أن سقراط لم يكن مجرّد شخص ملحد ومعلّم روحيّ لطائفة غريبة. لكنّه كان أيضا شخصا نخبويّا أحاط نفسه بشخصيّات غير محبوبة سياسيّا. وكان هو من درّس وعلّم أولئك الأشخاص الذين اعتُبروا مسئولين مباشرة عن الهزيمة في الحرب.
وكانت مزاعم المحكمة تلك لا تخلو من حقيقة. فـ أفلاطون وزينوفون اللذان كانا من أقرب أصدقاء سقراط، كانا يؤلّهانه كمعلّم وموجّه. بينما تسبّب كلّ من آلسيباياديز وكرايتياس، اللذين كانا هما أيضا قريبين جدّا من سقراط، في دفع أثينا إلى شفا كارثة عسكرية. وقد وظّفت المحكمة كلام هذين الأخيرين وأفعالهما ووضعتها في سياق سياسيّ يدفع باتجاه تأكيد التهم وتثبيت الحكم.
يتوقّف ووترفيلد مطوّلا ليصف هاتين الشخصيّتين وغيرهما من الشخصيّات الطموحة والمنعدمة الضمير التي هيمنت على الحياة العامّة في ذلك العصر. كان آلسيباياديز أحد جنرالات أثينا البارزين وكان مشهورا بوسامته وبكثرة خيوله وبثرائه وإفراطه في السُكْر. وقد فّرّ إلى سبارتا ثمّ إلى بلاد فارس، وأخيرا دبّر مؤامرة ضدّ الديمقراطية في عام 411 قبل الميلاد. وكان سقراط على علاقة غراميّة مع آلسيباياديز استمرّت عدّة سنوات. في ذلك الوقت، كان أمرا طبيعيا أن يصطفي الأستاذ واحدا من تلاميذه ويقيم معه علاقة حميمة. غير أن سقراط وآلسيباياديز كانا شريكين غير محتملين: الأوّل فيلسوف عجوز ودميم إلى حدّ ما، والثاني شابّ ارستقراطيّ ساحر وطموح ومتكبّر.
أما كرايتياس الذي سبق له هو أيضا أن تتلمذ على يد سقراط فقد أصبح في ما بعد احد أعضاء الطغمة التي استولت على السلطة بعد ذلك بثلاث سنوات. وعندما كان في السلطة، حكم كرايتياس على المئات من أهل أثينا بالموت بإجبارهم على تناول السمّ، كما دفع بآخرين غيرهم للذهاب إلى المنفى.
والنقطة التي يثيرها المؤلّف هي أن موت سقراط كان احد أسبابه هو علاقته المثيرة والفاحشة مع هذين الشخصين اللذين كانا من أعنف وأكثر أعداء الديمقراطية في زمانه. وليس هناك من شكّ في أن ارتباط سقراط بـ آلسيباياديز على وجه الخصوص وُظّف ضدّه في المحكمة. وهذه ليست نظرية ووترفيلد وحده، بل كان هذا الرأي رائجا على نطاق واسع في أثينا القديمة أيضا.
بحلول العام 399 قبل الميلاد، كان كلّ من كرايتياس وآلسيباياديز قد قُتلا. وكان على المحكمة أن تبتّ في المهمّة التي لم تُنجز بعد، أي التخلّص من سقراط نفسه.
لقد اعتُبر سقراط شرّا ينبغي إزاحته لأنه بدا وكأنه يؤمن بالحكم عن طريق الخبرة ويفضّل الحكم الأوليغاركي "أي حكم الأقليّة الديكتاتورية" على الديمقراطية التقليدية، ومن ثمّ عُدّ مسئولا عن نتيجة الحرب مع سبارتا التي دامت ما يقارب الثلاثين عاما. لذا كانت إدانته والحكم عليه بالموت أمرا لا مفرّ منه.
ومن سوء حظّ سقراط، أن قائمة المتعاطفين معه كانت تضمّ أيضا جماعات وفرَقاً محتقرَة ومنبوذة اجتماعيّا. وقد استغلّت المحكمة هذا العامل الإضافي في تثبيت الحكم. الكلبيّون، مثلا، كانوا قد نصّبوا سقراط معلّما لهم. وكان هؤلاء معروفين بابتذالهم وجموح أفكارهم. كما كانوا يسخرون من القانون علنا ويرفضون اعتبار أنفسهم مواطنين.
الآباء الطيّبون وأرباب الأسر المحافظة الذين وجدوا سقراط مذنبا بتهمة "إفساد الشباب" لم يكونوا خائفين كثيرا من مغازلات الفيلسوف ونزواته، بقدر ما كانوا قلقين من احتمال أن يتحوّل أبناؤهم إلى كلبيّين ساخرين.
كانت أثينا آنذاك في حالة اضطراب ومجتمعها غارقا في المشاعر الدينية، لدرجة أن أيّ مصيبة تحلّ يمكن أن تُفسّر على أنها علامة تحذير من الآلهة. وكانت خسارة الحرب تعني أن الآلهة غاضبة، ولم يكن سقراط سوى القربان أو كبش الفداء المناسب. ترى مَن غيره يمكن أن يكون مسئولا عن الهزيمة وهو الذي كان يدرّس الشباب ويحرّضهم على أن يتمردّوا على آبائهم ويشكّكوا في القيم القديمة؟
الدين في أثينا كان شأنا عامّا ومرتبطا ارتباطا وثيقا بقيم المدينة. وكانت المعصية أو انعدام التقوى تُعرّف وفقا لمعايير المجتمع، تماما مثلما نعرّف هذه الأيّام مفردات مثل الفحش أو الفجور.
من الناحية الفنّية، صُنّفت المحاكمة تحت فئة "المحاكمات المقرّرة"، أي التي تفترض وجود درجات مختلفة ومتفاوتة من الذنب. فإذا وُجد المدّعى عليه مذنبا، فإن المدّعي العام يقترح عقوبة، بينما يحقّ للمدّعى عليه أن يقترح عقوبة اقلّ. ثم تكون هناك جولة ثانية من التصويت.
ولكي نفهم لماذا مات سقراط، من المهمّ أن ننظر في عوامل أخرى، من بينها سلوك سقراط نفسه. إذ يشير أفلاطون إلى أن سقراط هو من وضع خطّة موته لأنه لم يقل شيئا في دفاعه عن نفسه. وهذا الكلام لا يخلو من حقيقة. فقد سخر من إجراءات المحكمة، وبدلا من أن يقترح دفع غرامة أو الذهاب إلى المنفى، أصرّ على أنه يريد عشاءَ مجانيّا على نفقة الدولة! الكثيرون ممّن كتبوا عن سقراط آنذاك ونُشرت كتبهم بعد وفاته، ومن بينهم أفلاطون وزينوفون، احتاروا في تفسير ذلك التصرّف الغريب.
في الصفحات الأخيرة من كتابه الذي يتناول فيه وقائع المحاكمة، يقدّم أفلاطون شرحا مذهلا عن تأثيرات السمّ على جسد سقراط. ويصف الشلل الصاعد ببطء، بدءا من القدمين ثم الساقين وحتى الصدر، بينما يظلّ عقل سقراط صافيا متنبّها إلى أن يصل الموت بهدوء. رواية أفلاطون عن الحادثة غنيّة بقوّتها الانفعالية وبتفاصيلها الإكلينيكية الدقيقة.

الرجل الذي ابتكر التاريخ



اعتاد المؤرّخون على أن يتعاملوا مع هيرودوت بشيء من التعالي، لأنه كان ميّالا لأن يسلّي قرّاءه بحكايات عن بشر لهم رؤوس كالكلاب وعن نمل يحفر بحثا عن الذهب وعن ثعابين تطير في الهواء. شيشرون، المؤرّخ الروماني، أطلق عليه لقب "أبو التاريخ"، لكن بلوتارك وصفه في وقت لاحق بـ "أبو الأكاذيب".
في هذا الكتاب بعنوان "طريق هيرودوت: رحلات مع الرجل الذي ابتكر التاريخ"، يتتبّع الكاتب والرحّالة البريطاني جستين ماروتزي خطى هيرودوت عبر الشرق الأوسط والبحر المتوسّط، ويدرس ملاحظاته التي كتبها قبل ألفين وخمسمائة عام عن الثقافات والأماكن التي زارها.
قبل أكثر من ألفي عام، كانت المدن اليونانية تتناثر على سواحل تخوم آسيا. ولم يكن اختيار أيّ من تلك المدن كنقطة انطلاق أمرا صعبا بالنسبة لرجل مثل هيرودوت كان يعشق السفر والترحال. كانت مصر تبعد أقلّ من أربعمائة ميل إلى الجنوب. وكانت جزر بحر إيجه ومدنها تقع على بعد أمتار من عتبة منزله. وعبر الماء، كانت أثينا العظيمة تتلألأ مثل منارة. وإلى الشرق، يقع مركز الإمبراطورية الفارسية وبابل وما وراءها.
ومثل مستكشف من القرن التاسع عشر ينفض الغبار الأفريقيّ عن حذائه بينما يحاضر في قاعات الجمعية الجغرافية الملكية عن قبيلة غامضة، فإن هيرودوت يأخذنا إلى العالم الغامض لليبيين والفرس والمصريين والإثيوبيين والبابليين والهنود. وهو يتساءل: من هم هؤلاء الناس، ومن أين جاءوا، وما هي عاداتهم وبماذا يختلفون عنّا من حيث أحوالهم السياسية والاجتماعية والمعمارية والدينية والتجارية، وماذا يمكننا أن نتعلّم منهم؟
يقول ماروتزي في مقدّمة الكتاب: قد يكون هيرودوت عاش قبل أربعة وعشرين قرنا، لكنه ينتمي إلى عالمنا المعاصر، عالم القرن الحادي والعشرين. انه ليس أبا للتاريخ فحسب، بل كان أيضا أوّل كاتب رحلات في العالم، وكان عالم جغرافيا وعالم أنثروبولوجيا ومستكشفا وفيلسوفا وأخلاقيا ومحقّقا صحفيا دءوبا وداعية متنوّرا لتعدّد الثقافات حتى قبل أن توجد الكلمة. وبالإضافة إلى ذلك، كان هيرودوت حكواتيا رائعا ورحّالة لا يعرف الكلل ومراقبا بارعا لأحوال البشر".
ماروتزي نفسه رحّالة مخضرم وصحفيّ مقدام وعابر للحدود الثقافية. وهو يعامل بطله بكثير من الإنصاف في هذا الكتاب المسلّي والمثير للفكر.
وهو يرى أن هيرودوت أكثر انتماءً إلى عصرنا من كثير من الكتّاب. فقد كان يكتب نثرا سهلا ورائعا، كما كان يحبّ السرد الجيّد الذي تتخلّله تعليقات جانبية محبّبة وطريفة. في كتابه "التواريخ" قصص مسهبة عن رجال برؤوس كلاب وثعابين تطير كما لو أنها تبحث عن فضاء داخل سرد هيرودوت الفتّان عن الحروب الفارسية التي خرجت منها اليونان منتصرة في العام الخامس قبل الميلاد مفسحة المجال أمام ولادة الحضارة الغربية.
وماروتزي ينسب الفضل لهيرودوت في اختراع مصطلح "الغرب" كمفهوم سياسيّ ويأسف لأنه لا بوش ولا بلير رأيا انه من المناسب أن يقرءا كتاب "التواريخ" قبل غزوهما للعراق.
ويتوقّف المؤلّف عند كتاب بلوتارك بعنوان عن خبث هيرودوت والذي تحوّل فيه هيرودوت إلى أبي الأكاذيب. وماروتزي يرفض هذا الوصف ويرى بأنه وصف خياليّ ومؤسف ولا يختلف كثيرا عن الذين سخروا من هيرودوت في وقت لاحق باعتباره ناشرا ومروّجا للخرافات. "أيّا ما كانت عيوب هيرودوت كمؤرّخ، وهو عادة ما يُتّهم وبطريقة غير منصفة أحيانا باختلاق بعض القصص، إلا انه يظلّ أكثر قابلية للقراءة من معظم من أتوا بعده من الرحّالة".
أحد مصادر المتعة في هذا الكتاب هو أن المؤلّف يسافر بصحبة القارئ إلى الأماكن والبلدان التي ذهب إليها هيرودوت أو عاش فيها، ويقرن ذلك بالأوصاف الجميلة والملاحظات الذكيّة والممتعة. ويبدأ رحلة الاكتشاف تلك بزيارة لبلدة بودروم مسقط رأس هيرودوت؛ تلك المدينة القديمة الواقعة على ساحل بحر إيجه والتي كانت تُسمّى في زمن هيرودوت بـ هاليكارناسوس.
ثمّ يذهب المؤلّف إلى بغداد التي لم تكن موجودة على أيّام هيرودوت، وإلى بابل وهي مكان لحضارات سبقت هيرودوت بأكثر من ألف وثلاثمائة عام. ثمّ يحلّ في مصر قبل أن يعود إدراجه إلى سالونيك وأثينا والأرخبيل اليونانيّ. وبين كلّ مكان وآخر، يورد ماروتزي تلميحات ثمينة ذكرها هيرودوت في "التواريخ" عن أسفاره وتنقّلاته.
في مصر، كان هيرودوت أكثر اهتماما بنهر النيل وتقنيات التحنيط من اهتمامه بالأهرام مثلا. ولا ينسى المؤلّف أن يزور أعجوبة العالم الثامنة، أي نفق يوبيلينوس في جزيرة ساموس. ويقول معلّقا: من الصعب أن يتحمّس الناس من اجل نفق. لكنّه يتحدّى الخفافيش والفئران". وبمساعدة مجموعة من خرائط الرسم، يحاول الكاتب بناء قضيّة لإدراج هذا النفق الأسطوري ضمن عجائب الدنيا القديمة.
وماروتزي ملاحظ دقيق للتفاصيل وهو يستخدم كتاب "التواريخ"، ليس كمصدر للمعلومات فحسب، وإنما كأداة للمقارنة والقياس والترفيه أيضا. وبالنسبة له، فإن الأرض والناس هما جزء لا يتجزّأ من بحثه عن هيرودوت، تماما كما كان هذا العنصران مهمّين بالنسبة للمؤرّخ.
أحد الأشياء التي يعلّمنا إيّاها هذا الكتاب هو أن التاريخ القديم ليس بالضرورة منقطع الصلة بعالم اليوم. فالعداء العرقي والجغرافي ما يزالان موجودين في هذا العالم ويتدثّران بحجج وأغراض وذرائع كثيرة ومختلفة.
وعلى الرغم من أن نظرة هيرودوت للعالم مضى عليها أكثر من ألفين وخمسمائة عام، إلا أنها ما تزال حديثة بشكل مدهش: احترموا العادات والثقافات الغريبة، وابقوا ضمن الحدود الطبيعية الخاصّة بكم، واحترسوا من التوسّع الإمبراطوري المفرط، وحذار من الغطرسة التي قد تقودكم إلى الانتقام، ولا تركنوا إلى أمجادكم القديمة وتذكّروا نصيحة الحكيم سولون إلى ملك ليديا الثريّ كرويسوس: أحيانا يمنح الله إنسانا لمحة من السعادة ثم لا يلبث أن يدمّره بعد ذلك".
كتاب "الرجل الذي ابتكر التاريخ" هو مزيج فاتن من الرحلات والتاريخ والقصص المسلّية التي وضعها كاتب موهوب وذو أسلوب مرهف، خاصّة عندما يصف الأماكن التي تشرّبت على مدى قرون طويلة بالكثير من الدم والشمس والعرق والبؤس البشري. وإذا أعجبك موضوع هذا الكتاب فاحرص على أن تقرأ كتابا آخر لا يقلّ أهمية وشهرة هو رحلات مع هيرودوت للصحفيّ البولندي ريشارد كابوشتنسكي . "مترجم". 

المكتبة في الليل



البيرتو مانغويل مفكّر وكاتب ومترجم أرجنتيني ومؤلّف عدد من الكتب، أشهرها تاريخ القراءة وقاموس الأماكن المتخيّلة ومدينة الكلمات .
"المكتبة في الليل" هو آخر كتب مانغويل، وهو عبارة عن رحلة مشوّقة في العديد من الأماكن والأزمنة لاستكشاف تاريخ المكتبات ومجموعات الكتب الخاصّة والأشخاص الذين كانوا وراءها والكتب التي تضمّها.
مانغويل نفسه خبير لامع في كلّ ما له علاقة بالقراءة والمكتبات. وهو يمتلك مكتبة واسعة ومتنوّعة أسّسها في طرف مزرعة في منطقة اللوار الفرنسية يعود تاريخها إلى القرن الخامس عشر.
عنوان الكتاب استمدّه المؤلّف من كونه يفضّل الجلوس في المكتبة ليلا بعد أن يكون الظلام قد خيّم على الكون في الخارج. يقول موضّحا هذه النقطة: في الليل يتغيّر الجوّ وتصبح الأصوات مكتومة والأفكار يصير صوتها أعلى. الوقت يبدو أقرب إلى تلك اللحظة في منتصف الطريق بين اليقظة والنوم. بِرَك الضوء التي تتسرّب من المصابيح تشعرني بالدفء. وفي رائحة الرفوف الخشبية وعطر المسك المنبعث من الأغلفة الجلدية ما يكفي لتهدئة الأعصاب وإعداد الإنسان نفسه للنوم".
في المقدّمة يشرح مانغويل علاقته الوثيقة بعالم الكتب والمكتبات. يقول: في شبابي الأحمق، عندما كان أصدقائي يحلمون بالأعمال البطولية في عالم الهندسة والقانون والماليّة والسياسة الوطنية، كنت أحلم بأن أصبح أمين مكتبة". ويضيف: بعد أن بلغت السادسة والخمسين، وهي السنّ التي تبدأ فيها الحياة الحقيقيّة بحسب دوستويفسكي، عادت إليّ تلك الفكرة المثالية، أي أن أصبح أمين مكتبة. لقد عشت طوال عمري بين أرفف الكتب التي ظلّت تتزايد باستمرار إلى أن أصبحت اليوم تهدّد بطمس حدود البيت نفسه. وعنوان هذا الكتاب كان ينبغي أن يكون "رحلة ليليّة حول غرفتي". لكن ممّا يؤسف له أن غزافييه دو مِستر سبقني إلى هذا العنوان قبل أكثر من قرنين من الزمان عندما اختاره لأحد كتبه".
يتضمّن كتاب المكتبة في الليل خمسة عشر فصلا يتحدّث المؤلّف في كلّ منها عن تمظهر أو وظيفة ما للمكتبة. مثلا، هناك فصل بعنوان "المكتبة كأسطورة"، وآخر بعنوان "المكتبة كظِلّ" وثالث بعنوان "المكتبة كعقل"، ورابع بعنوان "المكتبة كنظام"، وخامس بعنوان "المكتبة كشكل"، وسادس بعنوان "المكتبة كجزيرة"، وهكذا.. ثمّ يربط الكاتب كلّ فصل بتجربته الحياتية في ترتيب ونقل وقراءة الكتب في مكتبته الخاصّة.
وقد جمع مانغويل في هذه الفصول عددا من الحكايات المسلّية والقراءات الموثّقة والصور الفوتوغرافية في قالب أشبه ما يكون بسيرة ذاتيّة مصغرّة للكاتب. وهو ينتقل من التاريخ إلى الجغرافيا والعكس، ويتحرّك باستمرار من فكرة لأخرى، وأثناء ذلك ينقل قصصا لا تُعدّ ولا تُحصى.
يتحدّث مثلا عن كتاب الفهرست، وهو فهرس مشروح للأدب العربيّ جمعه ابن النديم ابتداءً من العام 987. ثمّ يتناول النزاع بين مايكل أنجيلو والبابا كليمنت السابع على تصميم المكتبة الكبيرة في فلورنسا. ثمّ يعرّج على المكتبة التي جرفتها المياه إلى الشاطئ مع روبنسون كروزو في رواية دانيال ديفو المشهورة.
وعبر صفحات الكتاب تتناثر بعض المقاطع والأفكار الجميلة التي تمنح هذا الكتاب سحرا خاصّا، كقول مانغويل مثلا:
"في الضوء، نقرأ ابتكارات الآخرين، وفي الظلام نبتكر قصصنا الخاصّة".
"الكتب القديمة التي عرفنا عنها ولم نمتلكها تعبر طريقنا وتدعو نفسها ثانية. والكتب الجديدة تحاول إغواءنا يوميّا بالعناوين المثيرة والأغلفة المحيّرة".
"في الليل، عندما تُضاء مصابيح المكتبة، يختفي العالم الخارجيّ ولا يعود موجودا سوى فراغ الكتب".
"في الظلام، بينما النافذة مضاءة وصفوف الكتب تتألّق، تصبح المكتبة مساحة مغلقة، كوناً لا شكل له".
"كلّ واحد من كتبي هرب، إمّا من النار أو الماء أو غبار الزمن أو من القرّاء المهملين أو يد الرقيب، وأتى إلى هنا كي يحكي لي قصّته".
"في الليل، هنا في المكتبة، يصبح للأشباح أصوات".
"عندما تقرأ كتابا وأنت جالس داخل دائرة فأنت لا تقرؤه بنفس الطريقة عندما تكون جالسا داخل مربّع أو في غرفة سقفها منخفض أو في أخرى ذات عوارض خشبية عالية".
"كلّ قارئ ما هو إلا فصل واحد في حياة كتاب. وما لم ينقل ما عرفه للآخرين فكأنّه حكم على ذلك الكتاب بالموت حرقا".
"الكتّاب يكتبون لأنهم بالأساس قرّاء ملتزمون، وهم يفعلون ذلك في غرف تصطفّ على جنباتها الكتب".
عقل مانغويل النشط والمتحفّز يقرأ ويتذكّر، وأثناء ذلك يخلق ارتباطات وصورا ذهنية لا تخلو من طرافة. انه يتخيّل الكتب وهي تتحدّث مع بعضها وتغنّي وترقص، وأحيانا تغادر الأرفف ويواجه بعضها بعضا على الأرضية، حيث تتبادل الإهانات واللكمات ويمزّق كلّ منها صفحات الآخر. وعندما تُطفأ الأنوار تستقرّ وتهدأ لتمارس الحبّ، وبالتالي تتناسل كتبا أخرى. "كلّ كتاب ينادي على الآخر بشكل غير متوقّع. ونصف سطر يمكن أن يتردّد صداه في سطر آخر لأسباب قد لا تكون واضحة في ضوء النهار. وإذا كانت المكتبة في النهار صدى للنظام والترتيب الشديد والمطلوب في العالم، فإن المكتبة في الليل تبدو فرحة بالتشوّش المبهج للأشياء في الخارج".
فهرس الكتاب يكشف عن قراءات المؤلّف وثقافته المتنوّعة والواسعة، من اسخيليوس وستيفان تسفايغ وإميل زولا إلى آنّا اخماتوفا، وخوان دي زوماراغا الذي كان مسئولا عن إنشاء أوّل مطبعة في العالم الجديد، وفي نفس الوقت عن تدمير معظم كتب إمبراطورية الأزتيك.
ويشير مانغويل إلى انه خارج اللاهوت والأدب الفانتازيّ، لا يوجد سوى القليلين الذين يمكن أن يشكّكوا في أن الملمح الرئيسيّ لهذا الكون هي خلوّه من أيّ معنى أو غرض. ومع ذلك ما يزال الجنس البشريّ يقدّس المعرفة ويسعى إليها ويوظّفها في محاولته ترتيب وفهم الكون.
ويضيف: الكتاب المقدّس يعلن أن غايته إيصال الحقيقة النهائية والمطلقة إلى البشر. لكنّ المكتبات الشخصيّة التي نجمع محتوياتها قطعة قطعة تمثّل اقتناعنا بأن الحقيقة جزئيّة ونسبيّة، وهي بناء تعاونيّ وليست كلاما تنطق به قوّة علوية".
ثمّ يصحب المؤلّف القارئ في رحلة عبر الزمان والمكان متذكّرا برج بابل الذي اغتالته ذات مرّة يد إله غاضب، ومكتبة الإسكندرية التي أحرقت عن طريق الخطأ عندما أضرم يوليوس قيصر النار في سفنه. كما يذكّرنا بأن المكتبات ظلّت تُبنى باستمرار من قبل البشر كي تؤوي أفكار بشر آخرين. وقد كان هذا هو الحال دائما منذ عهد الملك الآشوري آشور بانيبال الذي أمر بجمع الألواح الطينية من جميع أنحاء إمبراطوريّته كي تُدوّن عليها الكتب.
ويحفر مانغويل عميقا بحثا عن الدروس المستفادة من القصص الكلاسيكية، من قبيل تحليله القويّ لملحمة غلغامش ودراسته الممتعة لـ دون كيشوت وللسياق الاجتماعي والثقافي الذي كتب فيه ميغيل دي ثيرفانتيس تلك الرواية.
ثم يسرد قصّة من التاريخ البعيد. يقول: في العام 336، كان راهب قد رأى ربّه ورسم مشاهد من حياة بوذا على جدران احد الكهوف. وعلى مدى ألف عام، حوّلت الصدفة هذا الكهف وغيره من الكهوف القريبة إلى مستودعات من المخطوطات والأدوات الدينية. وبعد ما يقرب من ألف عام بعد ذلك، أدّت الصدفة إلى إعادة اكتشاف الموقع الذي يُعرف اليوم باسم كهوف موغاو أو كهوف الألف بوذا بالصين.
ويعلّق على ذلك بقوله: القصص هي ذاكرتنا، والمكتبات هي مستودعات تلك الذاكرة، والقراءة هي الحرفة التي نستطيع من خلالها إعادة تشكيل تلك الذاكرة بترجمتها إلى تجاربنا الخاصّة".
غير أن الرحلة التي يأخذنا إليها المؤلّف ليست سعيدة دائما. إذ يتحدّث في جزء من الكتاب عن العديد من المكتبات والكتب المفقودة، من مكتبة الإسكندرية، إلى النصوص الضائعة لبعض كتّاب الإغريق القدماء، إلى التدمير الرهيب للكثير من الأعمال والكتب في الأمريكتين على يد الإسبان. المسيحيون الكاثوليك دمّروا مكتبات كبيرة في المكسيك وأمريكا الوسطى وقضوا على تاريخ حضارات ضاع تراثها إلى الأبد. والعثمانيون دمّروا في القرن السادس عشر مكتبة كورفينا العظمى، التي قيل إنها كانت واحدة من دُرَر التاج الهنغاري.
ثم يتطرّق إلى الكتب الممنوعة، ومجموعات الكتب السرّية التي جُمعت في معسكرات الاعتقال وحافظت على حرّية الفكر في مواجهة الاستبداد، والمكتبات الخيالية أو الكتب التي لم تُكتب بعد مثل تلك التي حملها الكونت دراكيولا ووحش فرانكنشتاين. كما يشير أكثر من مرّة إلى تدمير مكتبات حضارتي المايا والأزتيك من قبل الغزاة والمبشّرين. ويعلّق بقوله: عندما يكون محتوى الكتب متوافقا مع الكتب المقدّسة، تصبح الكتب زائدة عن الحاجة. وإذا كانت غير متوافقة، تصبح غير مرغوب فيها. وفي كلا الحالتين ينبغي أن تُحرق. ويضيف: إن كتابا ممنوعا أو محروقا يمكن أن يكون أكثر تخريبا من كتاب سليم لأنه، بغيابه، ينال نوعا من الخلود".
مانغويل يرى أن المكتبة الرقمية هي بالنسبة للمكتبة التقليدية كالتصوير الفوتوغرافي بالنسبة للرسم. غير انه يشدّد على افتتانه بالمباني ورفوف الكتب وخطط ترتيبها وبالشخصيات الإنسانية التي تنتشر في مشهد المكتبة. المكتبة، عنده، ليست قاعدة بيانات فقط. إنها مكان يسمح لحكمة الإنسان وخياله أن يزدهرا. والمكتبة ليست شيئا مادّيّا، بل هي جوّ وثقافة وتاريخ متراكم يغرق في عمق الجدران والأرفف. وهو يرى أن الكتاب الذي يُقرأ على شاشة ولا نستطيع أن نملكه ولا أن نحبّه أو نمسك به بأيدينا، لا يمكن أن نهضمه أو نستوعبه في عقولنا.


الصحراء الكبرى: تاريخ ثقافي



زيارة الصحراء الكبرى والتجوّل بين معالمها هو حلم كان وما يزال يراود الكثيرين. ومن بين من فتنتهم رمال هذه الصحراء وواحاتها وسكّانها الاسكندر الأكبر ونابليون بونابرت واللورد بايرون والكاتب الأمريكي بول بولز.. وغيرهم.
في هذا الكتاب بعنوان "الصحراء الكبرى: تاريخ ثقافي"، يغطّي الباحث والمستعرب البريطاني إيمون غِيرون تاريخ الصحراء الكبرى، من عصور ما قبل التاريخ وصولا إلى الدراما السياسية التي تشهدها المنطقة اليوم: آلاف السنين من المستوطنات البشرية، وإحدى عشرة دولة حديثة، وطبيعة تسرّ وتُفزع بشكل متساو: بحار من الرمال وجبال تشبه تضاريس القمر وأراض بُور وواحات ماء وخضرة واهبة للحياة.
المشهد الإنساني للصحراء يتألّف من البدو والصيّادين والمزارعين وعدد لا يُحصى من الغزاة الذين جاءوا إليها مسلّحين بالسيوف والبنادق. وهناك زوّار آخرون جاءوا يحملون الأقلام وأدوات الرسم وآلات التصوير. وعلى مرّ قرون، وجد الفنّانون والكتّاب والشعراء وصنّاع الأفلام متعتهم في الصحراء الكبرى. المستكشفون والمغامرون والجغرافيّون عبروا، هم أيضا، الصحراء بحثا عن الذهب والعبيد والملح.
يقول المؤلّف في مقدّمة الكتاب: اسم الصحراء عربيّ. و"صحراء" كلمة تُطلق على جميع الصحارى في العالم. لكنّ هذه الصحراء بالذات، تُعتبر الأكبر والأروع، وهي ببساطة ملكة صحارى العالم. الصحراء الكبرى هي أكبر وأهمّ صحراء على كوكبنا. تمتدّ مساحتها من ضفاف النيل إلى شطآن المحيط الأطلسي، ومن البحر المتوسّط إلى نهر النيجر وأسوار تمبكتو. مساحة سطح الصحراء أكبر من مساحة الولايات المتحدة، ويبلغ عدد سكّانها بالكاد عدد سكّان بروكلين.
ويناقش المؤلّف ماضي الصحراء المائيّ والذي يعود تاريخه إلى ملايين السنين، عندما كان بحر تيثيس يغطّي الأرض التي تُسمّى اليوم بالصحراء الكبرى. ويشير إلى انه قبل تسعة آلاف عام فقط، كانت الصحراء الكبرى أرضا خضراء ترعى فيها الفيلة والزراف والظباء وغيرها من الحيوانات.
ثم يتحدّث عن الصحراء كأرض للموتى بالنسبة لمصر القديمة، وكمدفن ضخم لجيش من خمسين ألف مقاتل بقيادة ملك فارسي قديم يُدعى قمبيز. وقد هلك هؤلاء جميعا بعد أن اكتسحتهم عاصفة رملية في القرن السادس قبل الميلاد. ثم يتحدّث عن هانيبال وفيَلته وحرب يوليوس قيصر ضدّ انطوني وكليوباترا وعن الاسكندر الأكبر وجيوش الإسلام ونابليون وحرب رومل ضد مونتغومري.
كما يتناول الأساطير والألغاز الغامضة المرتبطة بالصحراء الكبرى، مثل بحر الرمال العظيم ومَرْكبات الآلهة وسيّارات المستعمرين ومناجم الملح والذهب وحقول النفط والغاز والأنهار التي صنعها الإنسان.
ويدلّل الكاتب على أهميّة العامل البشري في تاريخ الصحراء وذلك باقتباس روايات مباشرة من مشاهير الرحّالة كابن بطّوطة وكذلك من بعض المستكشفين الأوروبيين مثل فريدريش هورنيمان وهاينريش بارت وغيرهما. وبعض المقاطع من اليوميات الشخصية والمصادر الأوّلية ترسم لبعض زوّار الصحراء صورة عن أناس ملهمين وحسني النيّة، وللبعض الآخر صورة لبشر موغلين في الجهل وحتى العنصرية.
تاريخ الصحراء الكبرى حافل بأمثلة عن حضارات وامبراطوريات سادت ثم بادت بسبب الجفاف وندرة الماء. واليوم لا يوجد سوى أربعة ملايين من السكّان الأصليين في الصحراء. لكن على مرّ التاريخ، كان يُنظر إلى الصحراء كمكان للمتمرّدين والخارجين عن القانون. في العصر الروماني، مثلا، كانت المكان المفضّل لكلّ من يريد التهرّب من دفع الضرائب والاختباء بعيدا عن الأعين. وقد رأى فيها المصريون أرض الأموات. ثم أصبحت مخبئاً لقطّاع الطرق الذين يسلبون المقابر على الضفّة الغربية لنهر النيل.
ثم يتطرّق المؤلّف إلى الإبداعات الفنّية الحديثة المستوحاة من الصحراء الكبرى وكذلك اللقاءات بين شعوب الصحراء الأصليين وزوّارها. ويتناول قصائد الحرب وقصص التجسّس والروايات والأشعار التي استلهمت مواضيعها من الصحراء. القارئ الذي يهوى الأدب سيكتشف كيف أن شخصيّات أدبية كبيرة مثل ووردزوورث وكولريدج وشيلي وكيتس تعرّفوا على الصحراء بشكل حميمي رغم أنهم ظلّوا بعيدين عنها جسديّا.
الهدف الذي سعى إليه المؤلّف هو تناول مختلف الطرق التي صُوّرت بها الصحراء في مخيّلة أولئك الذين وطأتها أقدامهم ومن ثمّ إجراء تحقيق تاريخي في التشكيل الثقافي للصحراء. وهو يشير إلى أن الانبهار بالصحراء كانت تغذّيه دائما كتب مشهورة مثل الرمال الليبية لرالف باغنولد وكتاب إيماءة جميلة لبرسيفال رين وكتاب يوم الخلقلجيمس بالارد، وهي مراجع ما تزال إلى اليوم حيّة وغنيّة بالمعلومات.
والحقيقة أن الصحراء الكبرى ألهمت العديد من الشعراء والكتّاب. والكثيرون منهم لم يسافروا أبدا إلى هناك. لكن لم تكن الحال كذلك بالنسبة لشخص مثل انطوان دو سانت إغزوباريه، الرائد الأكثر شهرة للرحلات عبر الصحراء. وإغزوباريه معروف أيضا بروايته الأمير الصغير، وهي حكاية خرافية جميلة للأطفال والكبار يصف فيها تجربة اقترابه من الموت عطشا في الصحراء الكبرى. وقد تُرجمت هذه الرواية إلى مائة وثمانين لغة وباعت أكثر من ثمانين مليون نسخة في جميع أنحاء العالم، ما جعلها تتبوّأ مكان الصدارة في قائمة أفضل الكتب مبيعا باللغة الفرنسية في جميع الأوقات. 
لكن، وحسب المؤلّف، لا يوجد شخص عبّر عن الشعور الحقيقي لزائر أو ساكن الصحراء بمثل بلاغة الكاتب الأمريكي بول بولز الذي قال: لن تجد شخصا عاش في الصحراء فترة من الوقت وظلّ هو نفس الشخص الذي جاء إليها أوّل مرّة. في هذا المشهد الفخم الذي تضيئه النجوم مثل المشاعل، لا شيء يبقى سوى أنفاسك وصوت قلبك وهو ينبض. لا يوجد مكان آخر يوفّر لك الإحساس بالرضا عن الوجود والشعور باللانهائية مثل هذا المكان".
ويتحدّث الكاتب عن التحف الفنّية التي تضمّها الصحراء الكبرى من عصور ما قبل التاريخ من قبيل ما يُعرف باللوحات الحمراء التي عُثر عليها في كهف السبّاحين وتحدّث عنها الفيلم التذكّري المريض الانجليزي. والمؤسف أن الكثير من هذه التحف تتعرّض للتهديد المستمرّ بإتلافها وحتى سرقتها.
ثم يتطرّق إلى الكنوز المدفونة في الصحراء والى المبشّرين والسيّاح المغامرين الذين سعوا جميعا إلى ترك بصماتهم الخاصّة على الصحراء. يقول: لا توجد برّية أخرى اجتذبت مثل هذا العدد الكبير من المسافرين غير العاديّين. ثم يستدرك فيقول: طبعا لا يمكن لأحد أن يرسم للصحراء صورة عن الجنّة. فهي بالتأكيد ليست فردوسا من أيّ نوع. وهناك الكثير من الأوروبيين الذين سافروا إلى هناك، إمّا متنكّرين أو بأزياء بلدانهم، وانتهوا مقتولين على أيدي أدلائهم السياحيين".
وعلى الرغم من انه لا يمكن إنكار مدى عزلة هذه الصحراء ونأيها وقسوتها، إلا أن المؤلّف يدلّل على أن الصحراء ليست بأيّ حال خالية من التاريخ والثقافة والحياة. ويشير إلى واحدة من أكثر فترات الصحراء إثارة للاهتمام، أي عندما أصبحت تمبكتو مركزا للتعلّم، وعندما كانت قوافل الحجّ العظيم، وأشهرها قافلة ملك مالي موسى الأوّل، تعبر الصحراء كلّ عام جالبة معها الكنوز مثل العاج والتوابل والذهب إلى أسواق القاهرة.
وفي جزء آخر من الكتاب، يتحدّث الكاتب عن ما يسمّيه بـ "صمت الحدود" التي تفصل بين دول الصحراء. فاستقلال جنوب السودان مؤخّرا يعني أن الصحراء تضمّ الآن اثني عشر، وليس أحد عشر بلدا فقط. وبينما لا توجد هويّة واضحة لعموم الصحراء الكبرى، فإنها تبدو واحدة من أهمّ مناطق العالم التي وضعت حدودها القوى الاستعمارية الكبرى بشكل تعسّفي. وعلى سبيل المثال، فإن سكّان واحة سيوة في غرب مصر يشعرون أنهم مرتبطون بمنطقة شرق ليبيا أكثر من ارتباطهم بالحكومة في القاهرة.
ليس من شكّ في أن ايمون غيمون يحبّ الصحراء بعمق. وهو بارع في العثور على الأوصاف الدقيقة، سواءً من الآخرين الذين يكتب عنهم أو من كلامه هو. وصفه الشاعريّ والجميل لروح الصحراء لا يمكن أن يأتي إلا من شخص يهوى الصحراء بشغف ويفهمها بعمق. وهو يبدي أسفه لأنه جرى إضفاء طابع رومانسي واستشراقي على الصحراء على مدى قرون وتعدّى عليها الكثير من الغرباء لدرجة أن المنطقة تعاني الآن من مشكلة إدراك. وكما هو حال شعوب كثيرة على الأرض، فإن شعب الصحراء متنوّع ومقسّم. والعديد من الصحراويين يحلمون بوضع أقدامهم على الأراضي الخصبة والخضراء في قارّات أخرى.
اليوم تتعرّض السياحة في الصحراء لتهديدات خطيرة بسبب الحرب وأنشطة قطّاع الطرق وفروع تنظيم القاعدة الإرهابي. وهذه الظروف الصعبة يمكن أن تؤدّي إلى حرمان سكّان الصحراء من البدو الرحّل من الدخل البسيط الذي يبقيهم على قيد الحياة.
يقول المؤلّف: الفكرة الصحيحة عن الشعب الصحراوي هي اكتفائهم الذاتي. وما يميّز معظمهم هو ضيافتهم المطلقة وغير المشروطة. وإذا صادفوا شخصا ما في الصحراء، فإنهم يُلزمون أنفسهم بتغذيته وسقايته ثلاثة أيّام، حتى قبل أن يسألوه عن اسمه أو من أين قدِم".
والمؤلّف لا يعتقد أن غموض الصحراء قد اختفى. لكن اكتشاف ذلك الغموض مسألة شخصية. "الصحراء هي المكان الذي يجد فيه الناس أنفسهم. لذا ليس من المستغرب أن الديانات الثلاث الموحّدة الكبرى خرجت منها. وكثيرا ما يسألني الناس عن طبيعة العيش في الصحراء. وأقول لهم في الليلة الأولى أو الثانية ستقول لنفسك "ماذا جئت أفعل هنا بحقّ الجحيم"! وقد يتهدّدك خطر الجنون المؤقّت. ولكن بعد ذلك، سيغمرك شعور لا يوصف بالسلام والسكينة".
ويضيف: بخلاف الفكرة السائدة عند الكثيرين، فإن الصحراء ليست صامتة كما أنها ليست مجرّد مكان كبير وفارغ. عندما تكون على بعد مئات الأميال من قرية أخرى، ستحسّ بالدم وهو يتدفّق عاليا في أذنيك وتسمع ضخّ العروق في جسدك، ويمكنك أيضا سماع صفير الرياح أو أنين وتذمّر الإبل. أنت لست وحدك أبدا في الصحراء".
إيمون غِيرون يعرف موضوعه جيّدا بحكم انه عمل وسافر وعاش في الصحراء طوال العشرين عاما الماضية. وهو يقول إن احد أهمّ دوافعه من وراء تأليف الكتاب كان استياءه من سوء الفهم والصورة المبتذلة التي يحتفظ بها كثير من الناس عن المنطقة وأهلها. كما انه لا يشاطر إدوارد سعيد نظريّته في أن الاستشراق كان أداة لسيطرة الغربيين على الشرق. "أعتقد أن هناك العديد من العلماء والفنّانين والرحّالة الذين درسوا الشرق على سبيل حبّ المعرفة ولم يرتبطوا بحكومات ولا جيوش أو بأيّ شيء آخر".
غِيرون يعمل باحثا وأستاذا في كلّية الدراسات الدولية بجامعة جونز هوبكنز. وقد عُرف بأنه مستكشف للصحراء وخبير بتاريخها. بدأ غِيرون تعليمه الذي رافقه طوال حياته عن أساليب العيش والبقاء في الصحراء منذ العام 1997م. وقد درس حياة البدو في غرب مصر، وذهب منفردا على ظهر جمل لاستكشاف الصحراء المصرية.
والباحثون عن المغامرة وعشّاق السفر والقرّاء العاديّون الذين يهمّهم أن يعرفوا شيئا عن الصحراء الكبرى، أو عن الصحراء بشكل عام، سيستمتعون ولا شكّ بقراءة كتابه هذا. بل قد يكون الكتاب دافعا للقارئ كي يبيع منزله ويشتري ثلاثة من الجمال لقضاء العامين القادمين في الصحراء. وإذا كان هذا الاحتمال يبدو غريبا أو مستبعدا، فيمكنك أن تكتفي فقط بقراءة كتاب وضعه شخص متنوّر وذو عين لاقطة مع مقدرة كبيرة على السرد الممتع والمحكم.