الاثنين، 4 نوفمبر 2013

الصحراء الكبرى: تاريخ ثقافي



زيارة الصحراء الكبرى والتجوّل بين معالمها هو حلم كان وما يزال يراود الكثيرين. ومن بين من فتنتهم رمال هذه الصحراء وواحاتها وسكّانها الاسكندر الأكبر ونابليون بونابرت واللورد بايرون والكاتب الأمريكي بول بولز.. وغيرهم.
في هذا الكتاب بعنوان "الصحراء الكبرى: تاريخ ثقافي"، يغطّي الباحث والمستعرب البريطاني إيمون غِيرون تاريخ الصحراء الكبرى، من عصور ما قبل التاريخ وصولا إلى الدراما السياسية التي تشهدها المنطقة اليوم: آلاف السنين من المستوطنات البشرية، وإحدى عشرة دولة حديثة، وطبيعة تسرّ وتُفزع بشكل متساو: بحار من الرمال وجبال تشبه تضاريس القمر وأراض بُور وواحات ماء وخضرة واهبة للحياة.
المشهد الإنساني للصحراء يتألّف من البدو والصيّادين والمزارعين وعدد لا يُحصى من الغزاة الذين جاءوا إليها مسلّحين بالسيوف والبنادق. وهناك زوّار آخرون جاءوا يحملون الأقلام وأدوات الرسم وآلات التصوير. وعلى مرّ قرون، وجد الفنّانون والكتّاب والشعراء وصنّاع الأفلام متعتهم في الصحراء الكبرى. المستكشفون والمغامرون والجغرافيّون عبروا، هم أيضا، الصحراء بحثا عن الذهب والعبيد والملح.
يقول المؤلّف في مقدّمة الكتاب: اسم الصحراء عربيّ. و"صحراء" كلمة تُطلق على جميع الصحارى في العالم. لكنّ هذه الصحراء بالذات، تُعتبر الأكبر والأروع، وهي ببساطة ملكة صحارى العالم. الصحراء الكبرى هي أكبر وأهمّ صحراء على كوكبنا. تمتدّ مساحتها من ضفاف النيل إلى شطآن المحيط الأطلسي، ومن البحر المتوسّط إلى نهر النيجر وأسوار تمبكتو. مساحة سطح الصحراء أكبر من مساحة الولايات المتحدة، ويبلغ عدد سكّانها بالكاد عدد سكّان بروكلين.
ويناقش المؤلّف ماضي الصحراء المائيّ والذي يعود تاريخه إلى ملايين السنين، عندما كان بحر تيثيس يغطّي الأرض التي تُسمّى اليوم بالصحراء الكبرى. ويشير إلى انه قبل تسعة آلاف عام فقط، كانت الصحراء الكبرى أرضا خضراء ترعى فيها الفيلة والزراف والظباء وغيرها من الحيوانات.
ثم يتحدّث عن الصحراء كأرض للموتى بالنسبة لمصر القديمة، وكمدفن ضخم لجيش من خمسين ألف مقاتل بقيادة ملك فارسي قديم يُدعى قمبيز. وقد هلك هؤلاء جميعا بعد أن اكتسحتهم عاصفة رملية في القرن السادس قبل الميلاد. ثم يتحدّث عن هانيبال وفيَلته وحرب يوليوس قيصر ضدّ انطوني وكليوباترا وعن الاسكندر الأكبر وجيوش الإسلام ونابليون وحرب رومل ضد مونتغومري.
كما يتناول الأساطير والألغاز الغامضة المرتبطة بالصحراء الكبرى، مثل بحر الرمال العظيم ومَرْكبات الآلهة وسيّارات المستعمرين ومناجم الملح والذهب وحقول النفط والغاز والأنهار التي صنعها الإنسان.
ويدلّل الكاتب على أهميّة العامل البشري في تاريخ الصحراء وذلك باقتباس روايات مباشرة من مشاهير الرحّالة كابن بطّوطة وكذلك من بعض المستكشفين الأوروبيين مثل فريدريش هورنيمان وهاينريش بارت وغيرهما. وبعض المقاطع من اليوميات الشخصية والمصادر الأوّلية ترسم لبعض زوّار الصحراء صورة عن أناس ملهمين وحسني النيّة، وللبعض الآخر صورة لبشر موغلين في الجهل وحتى العنصرية.
تاريخ الصحراء الكبرى حافل بأمثلة عن حضارات وامبراطوريات سادت ثم بادت بسبب الجفاف وندرة الماء. واليوم لا يوجد سوى أربعة ملايين من السكّان الأصليين في الصحراء. لكن على مرّ التاريخ، كان يُنظر إلى الصحراء كمكان للمتمرّدين والخارجين عن القانون. في العصر الروماني، مثلا، كانت المكان المفضّل لكلّ من يريد التهرّب من دفع الضرائب والاختباء بعيدا عن الأعين. وقد رأى فيها المصريون أرض الأموات. ثم أصبحت مخبئاً لقطّاع الطرق الذين يسلبون المقابر على الضفّة الغربية لنهر النيل.
ثم يتطرّق المؤلّف إلى الإبداعات الفنّية الحديثة المستوحاة من الصحراء الكبرى وكذلك اللقاءات بين شعوب الصحراء الأصليين وزوّارها. ويتناول قصائد الحرب وقصص التجسّس والروايات والأشعار التي استلهمت مواضيعها من الصحراء. القارئ الذي يهوى الأدب سيكتشف كيف أن شخصيّات أدبية كبيرة مثل ووردزوورث وكولريدج وشيلي وكيتس تعرّفوا على الصحراء بشكل حميمي رغم أنهم ظلّوا بعيدين عنها جسديّا.
الهدف الذي سعى إليه المؤلّف هو تناول مختلف الطرق التي صُوّرت بها الصحراء في مخيّلة أولئك الذين وطأتها أقدامهم ومن ثمّ إجراء تحقيق تاريخي في التشكيل الثقافي للصحراء. وهو يشير إلى أن الانبهار بالصحراء كانت تغذّيه دائما كتب مشهورة مثل الرمال الليبية لرالف باغنولد وكتاب إيماءة جميلة لبرسيفال رين وكتاب يوم الخلقلجيمس بالارد، وهي مراجع ما تزال إلى اليوم حيّة وغنيّة بالمعلومات.
والحقيقة أن الصحراء الكبرى ألهمت العديد من الشعراء والكتّاب. والكثيرون منهم لم يسافروا أبدا إلى هناك. لكن لم تكن الحال كذلك بالنسبة لشخص مثل انطوان دو سانت إغزوباريه، الرائد الأكثر شهرة للرحلات عبر الصحراء. وإغزوباريه معروف أيضا بروايته الأمير الصغير، وهي حكاية خرافية جميلة للأطفال والكبار يصف فيها تجربة اقترابه من الموت عطشا في الصحراء الكبرى. وقد تُرجمت هذه الرواية إلى مائة وثمانين لغة وباعت أكثر من ثمانين مليون نسخة في جميع أنحاء العالم، ما جعلها تتبوّأ مكان الصدارة في قائمة أفضل الكتب مبيعا باللغة الفرنسية في جميع الأوقات. 
لكن، وحسب المؤلّف، لا يوجد شخص عبّر عن الشعور الحقيقي لزائر أو ساكن الصحراء بمثل بلاغة الكاتب الأمريكي بول بولز الذي قال: لن تجد شخصا عاش في الصحراء فترة من الوقت وظلّ هو نفس الشخص الذي جاء إليها أوّل مرّة. في هذا المشهد الفخم الذي تضيئه النجوم مثل المشاعل، لا شيء يبقى سوى أنفاسك وصوت قلبك وهو ينبض. لا يوجد مكان آخر يوفّر لك الإحساس بالرضا عن الوجود والشعور باللانهائية مثل هذا المكان".
ويتحدّث الكاتب عن التحف الفنّية التي تضمّها الصحراء الكبرى من عصور ما قبل التاريخ من قبيل ما يُعرف باللوحات الحمراء التي عُثر عليها في كهف السبّاحين وتحدّث عنها الفيلم التذكّري المريض الانجليزي. والمؤسف أن الكثير من هذه التحف تتعرّض للتهديد المستمرّ بإتلافها وحتى سرقتها.
ثم يتطرّق إلى الكنوز المدفونة في الصحراء والى المبشّرين والسيّاح المغامرين الذين سعوا جميعا إلى ترك بصماتهم الخاصّة على الصحراء. يقول: لا توجد برّية أخرى اجتذبت مثل هذا العدد الكبير من المسافرين غير العاديّين. ثم يستدرك فيقول: طبعا لا يمكن لأحد أن يرسم للصحراء صورة عن الجنّة. فهي بالتأكيد ليست فردوسا من أيّ نوع. وهناك الكثير من الأوروبيين الذين سافروا إلى هناك، إمّا متنكّرين أو بأزياء بلدانهم، وانتهوا مقتولين على أيدي أدلائهم السياحيين".
وعلى الرغم من انه لا يمكن إنكار مدى عزلة هذه الصحراء ونأيها وقسوتها، إلا أن المؤلّف يدلّل على أن الصحراء ليست بأيّ حال خالية من التاريخ والثقافة والحياة. ويشير إلى واحدة من أكثر فترات الصحراء إثارة للاهتمام، أي عندما أصبحت تمبكتو مركزا للتعلّم، وعندما كانت قوافل الحجّ العظيم، وأشهرها قافلة ملك مالي موسى الأوّل، تعبر الصحراء كلّ عام جالبة معها الكنوز مثل العاج والتوابل والذهب إلى أسواق القاهرة.
وفي جزء آخر من الكتاب، يتحدّث الكاتب عن ما يسمّيه بـ "صمت الحدود" التي تفصل بين دول الصحراء. فاستقلال جنوب السودان مؤخّرا يعني أن الصحراء تضمّ الآن اثني عشر، وليس أحد عشر بلدا فقط. وبينما لا توجد هويّة واضحة لعموم الصحراء الكبرى، فإنها تبدو واحدة من أهمّ مناطق العالم التي وضعت حدودها القوى الاستعمارية الكبرى بشكل تعسّفي. وعلى سبيل المثال، فإن سكّان واحة سيوة في غرب مصر يشعرون أنهم مرتبطون بمنطقة شرق ليبيا أكثر من ارتباطهم بالحكومة في القاهرة.
ليس من شكّ في أن ايمون غيمون يحبّ الصحراء بعمق. وهو بارع في العثور على الأوصاف الدقيقة، سواءً من الآخرين الذين يكتب عنهم أو من كلامه هو. وصفه الشاعريّ والجميل لروح الصحراء لا يمكن أن يأتي إلا من شخص يهوى الصحراء بشغف ويفهمها بعمق. وهو يبدي أسفه لأنه جرى إضفاء طابع رومانسي واستشراقي على الصحراء على مدى قرون وتعدّى عليها الكثير من الغرباء لدرجة أن المنطقة تعاني الآن من مشكلة إدراك. وكما هو حال شعوب كثيرة على الأرض، فإن شعب الصحراء متنوّع ومقسّم. والعديد من الصحراويين يحلمون بوضع أقدامهم على الأراضي الخصبة والخضراء في قارّات أخرى.
اليوم تتعرّض السياحة في الصحراء لتهديدات خطيرة بسبب الحرب وأنشطة قطّاع الطرق وفروع تنظيم القاعدة الإرهابي. وهذه الظروف الصعبة يمكن أن تؤدّي إلى حرمان سكّان الصحراء من البدو الرحّل من الدخل البسيط الذي يبقيهم على قيد الحياة.
يقول المؤلّف: الفكرة الصحيحة عن الشعب الصحراوي هي اكتفائهم الذاتي. وما يميّز معظمهم هو ضيافتهم المطلقة وغير المشروطة. وإذا صادفوا شخصا ما في الصحراء، فإنهم يُلزمون أنفسهم بتغذيته وسقايته ثلاثة أيّام، حتى قبل أن يسألوه عن اسمه أو من أين قدِم".
والمؤلّف لا يعتقد أن غموض الصحراء قد اختفى. لكن اكتشاف ذلك الغموض مسألة شخصية. "الصحراء هي المكان الذي يجد فيه الناس أنفسهم. لذا ليس من المستغرب أن الديانات الثلاث الموحّدة الكبرى خرجت منها. وكثيرا ما يسألني الناس عن طبيعة العيش في الصحراء. وأقول لهم في الليلة الأولى أو الثانية ستقول لنفسك "ماذا جئت أفعل هنا بحقّ الجحيم"! وقد يتهدّدك خطر الجنون المؤقّت. ولكن بعد ذلك، سيغمرك شعور لا يوصف بالسلام والسكينة".
ويضيف: بخلاف الفكرة السائدة عند الكثيرين، فإن الصحراء ليست صامتة كما أنها ليست مجرّد مكان كبير وفارغ. عندما تكون على بعد مئات الأميال من قرية أخرى، ستحسّ بالدم وهو يتدفّق عاليا في أذنيك وتسمع ضخّ العروق في جسدك، ويمكنك أيضا سماع صفير الرياح أو أنين وتذمّر الإبل. أنت لست وحدك أبدا في الصحراء".
إيمون غِيرون يعرف موضوعه جيّدا بحكم انه عمل وسافر وعاش في الصحراء طوال العشرين عاما الماضية. وهو يقول إن احد أهمّ دوافعه من وراء تأليف الكتاب كان استياءه من سوء الفهم والصورة المبتذلة التي يحتفظ بها كثير من الناس عن المنطقة وأهلها. كما انه لا يشاطر إدوارد سعيد نظريّته في أن الاستشراق كان أداة لسيطرة الغربيين على الشرق. "أعتقد أن هناك العديد من العلماء والفنّانين والرحّالة الذين درسوا الشرق على سبيل حبّ المعرفة ولم يرتبطوا بحكومات ولا جيوش أو بأيّ شيء آخر".
غِيرون يعمل باحثا وأستاذا في كلّية الدراسات الدولية بجامعة جونز هوبكنز. وقد عُرف بأنه مستكشف للصحراء وخبير بتاريخها. بدأ غِيرون تعليمه الذي رافقه طوال حياته عن أساليب العيش والبقاء في الصحراء منذ العام 1997م. وقد درس حياة البدو في غرب مصر، وذهب منفردا على ظهر جمل لاستكشاف الصحراء المصرية.
والباحثون عن المغامرة وعشّاق السفر والقرّاء العاديّون الذين يهمّهم أن يعرفوا شيئا عن الصحراء الكبرى، أو عن الصحراء بشكل عام، سيستمتعون ولا شكّ بقراءة كتابه هذا. بل قد يكون الكتاب دافعا للقارئ كي يبيع منزله ويشتري ثلاثة من الجمال لقضاء العامين القادمين في الصحراء. وإذا كان هذا الاحتمال يبدو غريبا أو مستبعدا، فيمكنك أن تكتفي فقط بقراءة كتاب وضعه شخص متنوّر وذو عين لاقطة مع مقدرة كبيرة على السرد الممتع والمحكم. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق