يبدو أن الأبيض والأسود زهو الزمن الجميل.. نوستالجياه تضفي السحر على كل شيء
فيه، أفلامه، وأغانيه، وصوره، وحكاياه، وحروبه.. نعم الحروب بالأبيض والأسود مختلفة، ربما لأن للانكسار فيها معنى، وللتحالفات معنى، وللبؤس معنى، وللخسائر معنى، وللانتصار معنى، وللموت فيها معنى. الحروب بالألوان لا لون للموت فيها ولا طعم ولا رائحة.. يتساقط الناس باردين في موت بارد، تحت أعين جاحظة باردة، من شاشات باردة، يطلّ منها نساء ورجال في كامل ألوانهم وزينتهم، يزفّون أخبار الموت بشفاه مكتنزة حمراء، وأسنان ناصعة البياض، وعيون مكحَّلة و.. ابتسامات.. مات.. مات.. مات.
ما الموت إذن؟
كيف يمكن لأي عاقل أو حكيم أو متصوِّف أو فيلسوف أو عالم أن يفسِّر ظاهرته..؟
كأنما لتفسير الموت لابدّّ من اللامعقول وكثير من جنون الحياة.
كانت الأسئلة تتوالد داخل جمجمتي وأنا أتخطّى عتبة القاعة الكبرى بمدينة لوركا بإسبانيا لألقي أشعاراً بالأبيض والأسود عن الحياة وعن الموت بالألوان، فإذا بألفونصو الفيلسوف يعترض طريقي ويفاجئني بسؤاله. ألفونصو ذاك المشاغب الذي لا يلبس سوى الأبيض والأسود، ولا يفتأ يتوكّأ الزليج الأبيض لعتبة القاعة. يعرفه جميع سكان المدينة الأندلسية المسمّاة «لوركا». مدينة صغيرة أنيقة تُنعت بـ (مدينة الشمس). تقع على مقربة من مرسية، وتحمل اسم الشاعر. تضعه على رأسها طرحة عروس، يتدلّى كما الدانتيل الرفيع مرفرفاً حولها.
عند الباب تماماً، تعثرتُ بعينيّ الشيـــخ ألفونـصو الفيلســـــــوف ELFILÓSOFO ALFONSO، هكذا يلقّبه مثقَّفو وشعراء المدينة بشيء من الاستهزاء. ربما يغارون منه لأنه أشهرهم قاطبة.
يبتسم لي ألفونصو وأنا أعبر الباب بسرعة:
- أهلاً سيدتي ربيعة.. هل صحيح أن لوركا مات فعلاً؟؟
?HOLA SEÑORA RABIA.. ES VERDAD QUE LORCA ESTA MUERTO
لعله عرف اسم ربيعة من إعلانات الأمسية المعلَّقة في بهو القاعة، ويعني بالإسبانية «الغضب».
لم أستطع الحديث إليه حينها، لم يكن لدي وقت بينما عريف الأمسية الشعرية يهمس في أذني بأن ألفونصو رجل أهبل وثرثار ولا إجابة على أسئلته الغريبة، وعليَّ أن أسرع بالدخول .
في الحقيقة دوَّخَني سؤال ألفونصو، وحرت جواباً.
هل مات لوركا؟ متى؟ من يستطيع أن يؤكِّد ذلك؟
ثم مَن الميت ياترى؟ ألفونصو الفيلسوف بالأبيض والأسود الذي يجلس ساخراً على مقربة من الباب العالي أم نحن الذين ندّعي فهم وتفسير هيرقليطس، وأرسطو، وأفلاطون؟
لا أدري يا سيد ألفونصو الفيلسوف، أأنتَ أنت؟ أمْ أنت حيّ بن يقظان، تدوِّخه مرارة السؤال الأول.. ما الموت؟؟ حيّ بن يقظان الآتي من مجرّة الشك والأسئلة. أليس من شدة وقع حزنه أن شرّح جثّة الظبية التي أرضعته وربَّته، ثم ماتت فجأة؟ألم يكن يبحث عن سؤال سديمي.. ؟
بل أنت حي بن يقظان.. الناس جميعهم حيّ بن يقظان، أحياء وأبناء يقظون، ينزلون من محنة ابن سينا، وأسئلة شهاب الدين السهروردي، وابن النفيس، وابن طفيل الأندلسي، وابن سبعين.. كلّنا أحفادهم نحمل جينات سؤالهم : ما الموت يا ألفونصو الفيلسوف؟.. ما الموت غير الخلق أنفسهم. وأنت على القارعة تجلس عند عتبة قاعة لوركا العظمى تدري أنك من سلالة المتصوّفة الذين اكتشفوا أن الموت درجات : الموت الأحمر، والموت الأبيض، والموت الأخضر قبل أن يتّفقوا على أن أشدّ الميتات بأساً هو الموت الأسود. وما الموت الأسود يا ألفونصو الفيلسوف الأهبل سوى التجلّي في احتمال الأذى من الخلق، والصبر على أحوالهم وأذاهم. الموت الأسود إذن هو الأذى، والأذى سَكينُ المخلوق، فالموت الأسود إذن سَكِينُه ولؤمُه المكنون. الموت الأسود إذن نزيل هذا العصر يا ألفونصو..
نكاية في الرصاصات التي يُتَخيَّلُ لعساكر فرانكو أنها أحدثت الحشرجة وهي تخترق صدر لوركا الذي كان يقف وظهره إلى حائط الإعدام، يأبى التوقُّف عن الاسترسال في إلقاء قصيدته حتى آخر تنهيدة، يتحدّى عنجهية أزمنة القهر منذ الأزل وحتى الآن، من قال إنه لم يكمل إلقاءها؟ من قال إن قصيدته تلك كانت الأخيرة؟ من قال؟
يا سينيور ألفونصو، أخبرني بربك، قبل أن تخُضّ زجاجة السؤال.. لوركا، وعلولة، والطاهر جاووت، وبلخنشير، وجيلالي اليابس، وبشار بن برد، والحلاج، وحسين مروة، وابن المقفع، ومهدي عامل، وصبحي الصالح، وفرج فودة.... هل هم موتى حقيقة أم يُشَبّه لنا؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق