الجمعة، 31 مايو 2013

قصص لعبد الرحيم التوراني

جنازة فقيه القرية


قال الفقيه بولحية لمسندر، وهو يعض على الحروف حتى كاد يدمي شفتيه الغليظتين: 
- هذا الميت لا يجوز غسله ولا ينبغي تكفينه ولا تجب الصلاة عليه. ثم أحنى رأسه وهو يحوقل ويلعن بصوته الأجش إبليس الرجيم .
كنا قد قمنا قبل وصول الفقيه بغسل ميتنا وبتكفينه. لم تبق إلا الصلاة على جثمانه. توجه إلينا لمسندر بموعظة فصيحة كلها تهديد وترهيب من أن نحشر مع الميت في جهنم إن فعلنا. هو رأى أن ميتنا يدخل الجحيم من دون انتظار يوم الحساب. وليوضح لنا ما جزم به قال:
- إن الجنة لا تنتظر ضيوفها حتى يأتي يوم الحساب، الجنة الآن ينعم فيها الملائكة والشهداء، كما أن جهنم يملؤها حاليا المنتحرون والشياطين من الأبالسة نجانا وإياكم الله من شرهم وشرورهم.
ثم أضاف مفتيا ببطلان تقبل العزاء في من ينتظر منا أن ندفنه طبقا لطقوس الدين الحنيف، محذرا أيضا من البكاء عليه. وانصرف والزبد يملأ شفتيه الغليضتين. 
تبادلنا النظرات فيما بيننا نحن أقرباء الميت بحزن أشد، ثم قمنا للصلاة عليه صلاة الجنازة. لم يكن من بيننا من يحفظ دعاء صلاة الجنازة، لكننا اهتدينا أن نسأل من الله العزيز الرحمة والمغفرة له ولنا. 
قال شقيق الميت غاضبا باكيا:
- وهل مفاتيح الجنة والنار في يد مثل هذا الغليض القلب والشفتين؟ 
أهلنا التراب على الفقيد، ثم عدنا لنواجه عدوانية الفقيه الذي أفتى بمقاطعتنا، وربما راودته فكرة تكفيرنا، لكن من حسن حظنا أنه اكتفى بوصفنا فقط بالعصاة. 
قال محدثا الناس عنا، وأغلبهم من جيراننا:
- هؤلاء عصاة عصوا الإله واتبعوا هوى الشيطان، لا يجوز الأكل معهم، ولا الصلاة بقربهم، ولا حتى تبادل السلام معهم. 
هكذا وجدنا أنفسنا معزولين. لما أنهى مكتب الدرك التحقيق في أسباب وظروف وفاة المرحوم تبين أن الهالك لم ينتحر وإنما مات مقتولا بسم الفئران. وبعد تعميق البحث والتحقيق ظهر القاتل، وكانت هي بنت بولحية لمسندر ما غيره. الفقيه الذي يصلي بالناس ويفتيهم في أمور دينهم ودنياهم. وكانت الغادرة لها علاقة آثمة بالميت. لم يستسغ الفقيه العار الذي ألحقته به أصغر بناته، فوجه فوهية بندقية صيد إلى ابنته ثم إلى فمه الواسع. اجتمع أهل القرية منتفضين وقد توزعوا ما بين من يفتي برمي جثته في حفرة من غير تغسيل ومن غير كفن وبلا صلاة جنازة، وبين من يعارض أن يعامل الفقيه ميتا مثل جيفة. "الرجل كان فقيه القرية يا ناس". هكذا نطق زرياط السكير. أما المغدورة الغادرة فلم ينتبه أحد إلى جثتها المرمية فوق التراب وقد غمر بصاق النساء والأطفال وجهها المدور الجميل.


أكل الكفن
كان أبي رجلا متدينا. متدينا غير متشدد. لكن الدين يسري في نبضه. عندما يعود مرهقا من عمله كنت أراه يتوضأ ويصلي ثم يجلس وحيدا يقرأ القرآن. وقراءة القرآن كانت تعني لي وأنا ولد صغير أن القرآن يتلى مرفقا ببكاء حد النحيب والشهيق، بعدما كبرت أدركت أن أبي كان إنسانا حزينا. مكتئبا. زاهدا في الدنيا. لا يتوقف عن ذم مباذلها واحتقار تفاهاتها. وكنا لا نتمتع بابتسامته الجميلة إلا عندما يبدأ في الحديث عن نعم الجنة ومباهجها.

في أخر الشهر كان والدي يسلم راتبه كاملا إلى أمي. هي المكلفة بتدبير شؤون حياتنا، أو أقول إنه كان يتعفف من الانشغال بتفاهات الدنيا الفانية. يأخذ فقط ما يكفي لبنزين دراجته النارية من نوع "موبيليت بيضاء"، التي ينتقل بواسطتها إلى عمله. لا يجلس في مقهى مثل أصحابه، ولم يكن له أصحابا.

كنت أسمعه يسأل الوالدة أن لا تتصرف في مبلغ معين. فترد عليه:
- حتى لو جعنا لن أمسه.
مما زاد من فضول الصبي الذي كنته حول سر هذا المبلغ المالي الذي سنجوع وهو في ملكنا. كيف يتحول مملوك إلى مالك لصاحبه.
وقادتني تحرياتي لأعرف مكان وضع المبلغ الخطير. ولم يكن كبيرا. بضعة أوراق من فئة عشرة دراهم ورقية عليها صورة محمد الخامس. لم أتردد في سرقة وريقاتها بالتقسيط. كنت أنسل إلى غرفة الوالد في غيابه وأسرق كل مرة ورقة محمد الخامس. بها أعيش ملكا. أذهب إلى سينما مونديال أو مونتي كارلو أو ريكس أو فاميليا، وكانت كلها قاعات سينمائية متجاورة بزنقة جورا بحي المعاريف في الدار البيضاء. أشتري سندويتش "هوت دوك" مع بطاطس "لي فريت"، ألعب البيليار في رينك مارسيل سيردان، أتباهى على أقراني بـأن عائلتنا غنية وأتبرع عليهم بالفنيد والحلوى مع الشوكولا، وقد أشتري لهم كرة لنلعب بها مباراة كرة قدم بعد أن نوزع علينا أسماء أبطال اللعبة المشهورين وقتها في المغرب واسبانيا. عبد اللطيف يصبح ديستسفانو، ومحمد هو خينطو، وأنا العربي بن مبارك، وقد أصبح في مباراة أخرى بلمحجوب الذي كان نجما بملاعب فرنسا.
عندما سيكتشف الوالد والوالدة أن المبلغ السري قد طار سأعرف أني كنت أتصرف في مصاريف الكفن والقبر وليلة عشاء الميت الذي سيكون هو أبي.
لقد أكلت الكفن ولعبت بالقبر وصرفت عشاء الميت إلى حلوى وفنيد.

قصص قصيرة جدّا


سماء في قفص
رتب أزهار المزهرية. نظر إلى سمكة الحوض الزجاجي. أطعم العصفور في القفص. أغلق زنزانة السجين. جلس يفكر في الغيوم، هل يسعها الحوض أم القفص أو المزهرية. نهض صائحا: وجدتها..وجدتها.. الزنزانة. أغلق نوافذ القصر وأمر الظلام باعتقال السماء.
_____

شهيد
ظلت ابتسامته تنهمر من بروفايله على صفحة الفيس بوك، بينما دم صدره يسيل فائرا في صفحة التراب. يفتقده الأصدقاء، يلومونه على الغياب.
_____

تضليل
سألوه وطلبوا منه جوابا صريحا مسبوقا بقسم الصدق. أقسم وصارحهم ليكتشف أنهم استعملوا جوابه في البهتان. صارت أجوبته أسئلة مسبوقة بالشك.
_____

سحر
يدها ترتعش. نظراتها زائغة. نصف ابتسامة على شفتيها. كنت أحاول أن أفهم حالتها. سبقتني. قرأتني كصفحة مختصرة. هضمتني في سطرين. مدت لي نفس اليد. غرست في وجهي نفس النظرات. ورمت في عيني ابتسامة كاملة. لم أعد أنا نفسي.
_____

عنوان
كتب: الألم. ثم شطبها. كتب مكانها: الحقد. لم تعجبه. وضع: الانتقام. ظن أنها المناسبة، ما لبث أن حذفها ليخط كلمة: الغدر. وجد نفسه في حيرة. أغرته: الخيانة، الخيبة، العجز، الخديعة. القدر، الهزيمة... وفي كل مرة كان يكتشف نقصا.
اعتراه الشك في عجز اللغة، تسربت الريبة إلى داخله. قام. مزق الورقة البيضاء. أطل من النافذة. رأى حركة الشارع. تراجع عن البحث عن العنوان المناسب للنص المتخيل الذي كان ينوي كتابته . نزل ليغتسل بالصخب وبالضجة الشاردة. 
_____

مداد التاريخ
وجاء الموتى للإدلاء بشهاداتهم، صدر أمر باعتقالهم واحتجازهم في مقابر بلا قبور.
صاح ميت:
- ما هكذا يعامل الموتى.. أين حرمة القبور؟
فتم عزله عن رفاقه وحكم عليه بالموت حتى الحياة.
خاف بقية الموتى على موتهم وهتفوا للظلام بالخلود. أطلق سراحهم وأنعم عليهم بظلمة قبور أكثر عتمة وحلكة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق