تاريخ القراءة - ألبرتو مانغويل
كان يا ما كان في سالف الأزمان، قلم و دواة و عقل و بنان، اجتمعت فأضحت إنساناً و كتاباً لبعضهما عاشقان. و في يوم من ذات الأيام، ظهر هذا العشق و استبان، عابرا التواريخ و البلدان، ليُجمع بين دفتين و عنوان
لا أدري من أين أبتدئ الحكاية… ربما من حكايتي معه…
حين انتهيت من فصله الأول سارعت بارتداء ملابسي و ركضت إلى أقرب مكتبة لشراء نسخة لي _إذ كنت أقرأ بنسخة صديقتي وفاء_، فقد أخذ سحره بمجامع قلبي و وقعت في حبه من أول فصل و علمت أني إن لم أحظ به فسأموت حسرة…
قد كان من ألذ الكتب التي استمتعت بتذوقها، و كأنه لوح كبير من الشوكولاتة ، كنت أمزمز صفحاته الـ (384) بتلذذ و بطء شديدين مشفقة من انتهائه…
حين ذكر الناشر من أنه قصة حب كبيرة لم يجحفه حقه، فهو قصة عشق حقيقة لكل مولع بالكتب و القراءة… رحلة تأسر الألباب في عالم متنوع من القصص و الغرائب و الطرائف عن الكتب و القرّاء حول العالم و عبر التاريخ…
هو ليس بحثا علميا بالمعنى الدقيق للكلمة، بل هو أقرب لسيرة ذاتية لآلبرتو المولع بالقراءة مازجاً إياها بأحاديث و شواهد و صور و أخبار و اقتباسات شيقة عن القراءة و الكتب عبر الزمان و المكان…
فصوله متنوعة و ملونة كتلون الكتاب و الإنسان: القراءة الصامتة… الصفحة الأولى المفقودة… شكل الكتاب… القراءة على الآخرين… قراءة الصور… سرقة الكتب… الصفحة الأخيرة… القراءة الممنوعة… الولع بالكتب…
يحمل قارئه بخفة و رشاقة بين العوالم المتعددة… يقفز من كافكا الذي يرى أن الكتاب حبس للعالم إلى بورخيس الذي كان يقرأ عليه المؤلف…أمبروسيوس أول من قرأ قراءة صامتة… القيصر الصيني الذي أحرق كل الكتب بإمبراطوريته… الأمير الفارسي الذي يصطحب معه مكتبته المؤلفة من 117000 كتاب على ظهر قافلة… و الدوق ليبري سارق الكتب المهووس… إطلاق عمال التبغ على السجائر أسماء أبطال الروايات التي تـُقرأ عليهم… كتاب سفينة الولعين و صفاتهم… السود و معاناتهم مع القراءة و و و و…
حكايات و مغامرات و كلمات و صور و رسوم لا يستشعر مدى لذتها إلا عشّاق الكتب وحدهم…
ليس هناك من كتاب كامل طبعا… فعيبه المشين هو إغفاله شبه التام للحضارة الإسلامية و كأنها لم تقم يوما و لم تسهم في الإرث الإنساني اللهم إلا بذكره تلميحات بسيطة في زواية ما من الكتاب… بيد أنه لا يمكن أن يُلام كثيرا على هذا فهو مؤلف غربي و من الطبيعي كون شواهده بمعظمها من تاريخه و ثقافته و بيئته خاصة أمريكا اللاتينية…
أما الترجمة فلا هي بالبديعة و لا بالمميزة، و لكنها توصل الفكرة على أية حال…
لكن هناك أمران وددت لو أن دار الساقي قد فعلتهما:
الأول- وددت لو أنها وضعت الفهرس الأجنبي للصور و الأسماء و ذلك حتى يسهل البحث على من أحب الاستزادة… أو على الأقل لو أنها أبقت الأسماء بأحرفها اللاتينية لكان الأمر أسهل في البحث… فقد استغرقني البحث عن بعض الصور و المعلومات ساعات على الشبكة، و حتى أجد بعضها اضطررت للعودة لصفحة الفهرس الموضوعة في موقع أمازون و المصورة بصورة رديئة جدا و بعضها اضطررت لتصويره من الكتاب مباشرة و غيرها تركت البحث عنه لشدة ما سئمت…
الثاني- لو أنها جعلت الصور ملونة و بأحجام كبيرة، حتى و لو زاد سعر الكتاب فلا أظن ذلك سيؤثر على مبيعاته كثيرا… فهذا الكتاب سيشتريه العاشقون مهما كان سعره… بل ستكون الصور المرفقة الملونة إغراء لا يمكن مقاومته…
بأية حال سأتوقف عن الثرثرة النظرية الجافة… و سأقوم بعرض غيض من فيض هذا الكتاب و صوره، قارنة أحيانا بعضها بشيء من تراثنا الإسلامي الذي ذكرتني به…
· لعل أغرب و أشهى كتاب ذكره هو كتاب الفنان سريفيني
( The Codex Seraphinianus)
الذي أصدره في أواخر السبعينات، و هو عبارة عن كتاب أشبه بموسوعة مصورة، يصور فيه مواضيع غير معروفة شارحا إياها بلغة غير مفهومة اخترعها سريفيني نفسه!!!
Rocket Circumambulation from The Codxe Seraphinianus
—————
· في القرن الخامس عشر ظهرت أناجيل تسمى بأناجيل الفقراء
(Biblia Pauperum)
و هي عبارة عن أناجيل مصورة توضع في الكنائس لأجل أن يتتبع الفقراء الذين لا يعرفون القراءة كلمات الكاهن في موعظته…0
Page of Biblia Pauperum
و هنا تذكرت رسوم الواسطي على مقامات الحريري في القرن الثالث عشر و التي مذ قرأت عنها مرة و شاهدت بعض رسومها و هي تسكنني و تأبى أن تغادرني…
مكتبة البصرى من رسومات الواسطي على مقامات الحريري
—————
· من الطرف طريقة قراءة للسطور كانت تُعرف باليونانية القديمة بـ
(Boustrophedon)
أي كما يغير المرء اتجاه ثور الحرث… من اليسار إلى اليمين ثم من اليمين إلى اليسار و هكذا…
و قد ذكرني ذلك ببعض أبيات الشعر العربية التي يمكن لك أن تقرأها من اليمين إلى اليسار و بالعكس مثلاً لو قرأت هذا البيت حرفا حرفا من اليمين إلى اليسار أو بالعكس لكان نفسه:
مودته تدوم لكل هول … وهل كل مودته تدوم
—————
· في عام 1588 نشر مهندس إيطالي يُدعى آغوستينو راميللي كتابا فيه اختراعات مفيدة من بينها آلة القراءة الذكية و التي _على حد قوله_ يستطيع المرء أن يقرأ عبرها عدة كتب دفعة واحدة دون مغادرة محله!!!
يبدو الإختراع طريفا للغاية إذ كيف له أن يقرأها كلها عبره!!!
Lesemaschine by Ramelli
—————
· في فصل سماه بـ(القراءة على الآخرين) تحدث عن متعة الاستماع لكتاب من فم الآخر بدل أن يقرأه بنفسه… ليس فقط ضرورة لأمية المتلقي كما كان الحال في العصور الوسطى و التي أظهرها الفنان ماريلييه (Marillier) في نقشه القراءة على العموم في فرنسا القرن الثامن عشر…
Clement Pierre Marillier Engraving
و هنا خطر على بالي الحكواتي الذي كان _و ما زال حتى اليوم_ يجلس في قهوة النوفرة قرب الجامع الأموي بدمشق ليقرأ السيرة الهلالية أو عنترة و عبلة على مستمعيه و كيف كان الحضور يتفاعلون لدرجة الاقتتال بينهم…
الحكواتي في قهوة النوفرة
—————
· يذكر أن أقدم أصغر كتاب في العالم يدعى حديقة الورود
(Bloem-Hofje)
الصادر في هولندا 1674 و الذي هو أصغر من طابع بريدي
11x9mm…
Bloem-Hofje
—————
· في فصل (القراءة الممنوعة ) يحدثنا عن الإمبراطور الصيني شيهوانغ-تي
(Qin Shi Huang)
الذي ألغى القراءة و أمر بحرق جميع الكتب الموجودة في إمبراطوريته!!!
حرق الكتب تحت إشراف الإمبراطور شيهوانغ-تي، طبعة رسوم خشبي صيني من القرن 16
ألا يذكـّرنا ذلك بما قام به الإسبان من حرق أكثر من مليون كتاب في ساحة غرناطة!!!
و كم مرة أعاد التاريخ نفسه و لا زال!!!
—————
· في فصل القراءة الوحدانية يحدثنا عن اللحظات الحميمة التي يقضيها المرء مع كتابه في الفراش: (القراءة في الفراش تعتبر أكثر من مجرد تمضية للوقت؛ إنها تمثل نوعاً من الوحدة. فالمرء يتراجع مركزاً على ذاته، و يترك الجسد يرتاح، و يجعل من نفسه بعيداً لا يمكن الوصول إليه مخفياً عن العالم.)ص180
راهب أثناء القراءة في الفراش في يوم شتوي قارس البرد؛ من كتاب مصور فرنسي من القرن 13
فعلاً ليس أجمل من قراءة كتاب مشوق في سرير دافئ في ليلة باردة…0
—————
· يعتبر فصل الوَلِع بالكتب من أمتع الفصول و أظرفها: (كسلان، واهن القوى، متبجح، متحذلق، مدعي الانتماء إلى النخبة – هذه الصفات و غيرها ألصقت على مر الأيام بالأستاذ شارد الذهن، بالقارئ القصير النظر، و بالمولعين بالكتب.) ص324 ثم يحدثنا عن كتاب سفينة الولعين
(Das Narrenschiff -Ship of Fools-)
الذي نشره سباستيان برانت
(Sebastian Bran)
عام 1494 و الذي فيه يصور صورة مولع بالكتب بنظارته على سبيل التندر و التي أصبحت هي الصورة المتعارف عليها اليوم للمولعين بالكتب…0
The Book Fool, who collects books, yet gathers no wisdom from them. From Sebastian Brant’s Ship of Fools (Das Narrenschiff), 1497.
—————
· و هكذا اجتمع قلبان، على كتاب في روضة ذات أفنان…
Paolo und Francesca by Anselm Feuerbach 1864 München Schack-Galerie
لكن الحكاية لم تنته عند هذا المكان، و لا يمكن لها أن تنتهي ما دام في الأرض كتاب و عينان تقرآن…
و من يدري فقد يمر من هنا باحث بالتاريخ فهمان، فتقدح في ذهنه فكرة تأليف كتاب ثان، عن تاريخ القراءة في تراث الإسلام و العربان، فيكمل لنا الرواية عن أجمل النوادر و الأخبار و الأشجان، و درر أجدادنا التي غيّبها النسيان، و يبتدئ الحكاية من جديد بكان يا ما كان، إنسان و كتاب عاشقان…
من مدونة : عن الكتب Muhammad Osman
-
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق