الاثنين، 12 مايو 2014

وفي الليل قالوا........... من مدونة خواطر



قبل عدّة قرون، كان الليل وقتا مخيفا وخطيرا للغاية. ليلة بلا ضوء قمر يمكن أن تكون مملوءة بالأخطار الحقيقية وغير الحقيقية. وفي هذا الكتاب بعنوان عندما ينتهي النهار: الليل في العصور القديمة ، ينير المؤرّخ روجر ايكيرك جانبا من الحياة تغاضى عنه المؤرّخون، فيسلّط الضوء على كيف كان الناس في أمريكا وأوربّا يقضون لياليهم في فترة ما قبل الثورة الصناعية.
وفي الكتاب أيضا يتناول المؤلّف مواضيع مثل الخوف من الجريمة ومن القوى الغيبية، وأهمّية ضوء القمر، وازدياد حالات المرض والوفاة في الليل، وتجمّعات المساء لنسج الصوف وتبادل القصص، والحفلات التنكّرية والنزل والحانات وبيوت الدعارة.
كما يتحدّث عن أعمال الشغب التي كان يقوم بها أشخاص سكارى في منتصف الليل، وعن إغراءات الساعات الأولى من النهار، واستراتيجيات اللصوص والقتلة والمتآمرين، وطرق الحماية من الطلاسم، والتأمّلات والصلاة وطبيعة نوم وأحلام الأسلاف.
ويبدو أن ايكيرك قرأ كل ما نُشر في أوروبّا وأمريكا الشمالية خلال الخمسمائة عام الماضية، ورجع إلى المئات من كتب التاريخ ومن المقالات واليوميات والرسائل والقضايا القانونية وسجلات المحاكم الجنائية والقصص الطبّية للحصول على معلومات.
يقول المؤلّف في بداية الكتاب: في أيّامنا هذه التي انتشرت فيها الكهرباء ومصابيح النيون في كلّ مكان تقريبا، من الصعب أن نتخيّل كيف كان الظلام في الأزمنة التي سبقت ظهور الإضاءة الاصطناعية. عند غروب الشمس، كان الظلام يهبط ومعه الخرافات والقلق. وخوفا من اللصوص والقتلة، كانت أبواب البيوت تُحصّن والأدعية تُتلى، وبعد ذلك يأتي نوم خفيف إلى أن يضيء الفجر السماء مرّة أخرى".
ويمضي الكاتب في وصفه لما كان يحدث في الظلام في البلدان الغربية بدءا من عصر النهضة وحتى معظم القرن التاسع عشر فيقول: كان الليل في الماضي يعني أكثر من مجرّد غياب الضوء. كان عالما آخر بالنسبة لسلوك الإنسان. كانت قبضة السلطة تتراجع مع مغيب الشمس. والحرّاس الليليون يعلنون للناس أن الليل قد انتصف وأن كلّ شيء على ما يرام".
في ذلك الوقت لم تكن الشرطة قد ظهرت بعد. وكانت عمليات السطو والقتل والحرق العمد شائعة. وكانت عصابات المتسوّلين وحملة السيوف والبلطجية تجوب الشوارع في الليل، ويمكن لأنشطتهم أن تؤدّي إلى عمليات قتل وتدمير.
وبعض الحالات المسجّلة من ذلك الوقت تتحدّث عن أناس تعثّروا في الظلام وتراجعوا للعيش بعيدا في الخنادق وعلى حوافّ الوديان والأنهار. كما أن عائلات بأكملها كانت في كثير من الأحيان تتشارك في سرير واحد وخال من أسباب الراحة. لكن الرغبة في التقارب وطلب الأمان كانت تفوق الحاجة لأن يتقلّب الإنسان في الفراش أو أن يتنفّس.
ثم يقدّم الكاتب حكايات تاريخية وفيرة لشرح التهديدات التي كان يمثّلها الليل. فحكم القانون يتعطّل إلى حدّ كبير ليلا، لذلك كانت الجريمة متفشّية. وإذا احتجت ضوءا أو تدفئة، فأنت تحتاج إلى النار التي كثيرا ما تخرج عن السيطرة عندما يكون الجميع نائمين.
كان الظلام يعزل كلّ عائلة عن بقيّة العالم ويتركها عرضة للمجهول. وكان مدهشا ذلك العدد الكبير من المخلوقات الليلية الخطرة التي ابتكرها العقل الخرافيّ وشجّعتها الكنائس في فترة ما قبل الثورة الصناعية، كالغيلان والأشباح والشياطين والملائكة الساقطين والجان والجنّيات والذئاب على هيئة بشر.. إلى آخره.
لكن كانت المخلوقات الليلية الأكثر إثارة للرعب هي السحرة والشيطان نفسه الذي يبدو أنه كان يُمضي قدرا كبيرا من وقته في التجوال في شوارع وطرقات أوروبّا ما قبل الثورة الصناعية مُصدِرا أصواتا غريبة تدبّ الذعر في قلوب السكارى العائدين إلى بيوتهم من الحانات.
وفي معظم أنحاء العالم الغربيّ، كان مجرّد الخروج ليلا يثير الامتعاض، بل ويعتبر أمرا غير قانوني أحيانا. ولكن كانت هناك استثناءات، كالحرّاس الليليّين والمومسات والخبّازين وصنّاع الزجاج الذين يُبقون على النار مشتعلة وعمّال تنظيف الشوارع وحفّاري القبور وسواهم.
وعلى الرغم من كلّ هذه المخاطر، لم يكن جميع الناس يلزمون بيوتهم ليلا. كان هناك منهم من يشعر بأن الليل يرخي ستارته على العالم المرئيّ ويتيح لهم التحرّر من قيود المجتمع. لذا كان الليل أيضا وقتا للمتعة. وكان بعض الناس يجتمعون في الظلام لإحياء الحفلات أو الذهاب إلى الحانات أو لإحياء بعض الطقوس الوثنية وغيرها من الأنشطة التي كانت تثير امتعاض رجال الدين.
وعلى الرغم من أن المؤلّف يؤكّد في أكثر من مكان من الكتاب الشكوك بأن وقت الليل في الأزمنة المبكّرة كان خطيرا وغير مريح، إلا انه يشير إلى أن الليل لم يكن مجرّد خلفية للنّهار أو توقّف للطبيعة، وإنّما كان يجسّد ثقافة متميّزة مع العديد من العادات والطقوس المرتبطة به. كما ان الكاتب يعبّر عن تحفّظات عميقة على الإضاءة المسرفة في عصر الحداثة فيقول: مع تقلّص الظلام هذه الأيّام فإن فرص الخصوصية والعلاقة الحميمة والتأمّل الذاتي أصبحت أكثر ندرة".



من حسنات هذا الكتاب انه يوفّر معلومات عن مختلف جوانب السلوك البشري في الليل وعن كلّ ما يرتبط بالليل في الماضي، من الفراش، إلى عادات النوم، إلى جهود الإنسان المبكّرة لخلق ضوء. كما يأخذنا في وصف مفصّل للشموع بمختلف أنواعها، وللمصابيح التي تحترق بزيت الحوت وبغاز الفحم، مع أوصاف لوسائل الحصول على الضوء والدفء كالسماد والخشب والجفت والفحم.
ولا ينسى الكاتب أن يضمّن الكتاب أيضا فصولا عن الأحلام، وعن تفاصيل تأمين المساكن ضدّ أخطار الليل، وعن الزيارات الليلية إلى الحانات، وعن الإرهاب الذي يتعرّض له من يضطرّ إلى السفر ليلا.
وقد جمع المؤلّف الكثير من المعلومات والاستشهادات من الأدب والاجتماع والسياسة. يذكر، على سبيل المثال، أن المفكّر والفيلسوف الانجليزي توماس هوبز كان يتهيّب من الاستلقاء وحيدا في الليل، ليس خوفا من الظلام وإنّما من مجرم قد يقتحم عليه البيت فجأة ويقتله من اجل حفنة جنيهات.
وفي مكان آخر، يوثّق الكاتب محاولات السلطات في المدن والقرى الأوروبّية فرض النظام على الفوضى الليلية بقوانين حظر التجوّل والحرّاس الليليّين وبوضع قيود على الأسلحة وعمليات التنكّر.
واستنادا إلى الأدلّة القولية، يشير المؤلّف إلى أنه قبل العصر الصناعيّ كان من الشائع أن ينام الناس مرّتين كلّ ليلة تتخلّلهما فترة صحو قصيرة. كما يصف ممارسة النوم المتقطّع فيقول إن الناس غالبا ما كانوا ينامون لبضع ساعات بعد العشاء ثمّ يستيقظون بعد منتصف الليل للتأمّل والصلاة أو للحديث أو للتدخين أو القراءة أو لممارسة الجنس، ومن ثمّ يستأنفون نومهم حتى الفجر. ويورد فقرة من كتاب بعنوان "أفكار منتصف الليل" نُشر العام 1682 ويقول فيه مؤلّفه: الرجل الصالح لا يجد وقتا يبتهل فيه إلى السماء أفضل من الاستيقاظ في منتصف الليل".
من ناحيتهم، كان العلماء والمخترعون الأوائل يحلمون بوضع نهاية للخوف الفظيع من الليل وذلك بوسائل مختلفة. من تلك الوسائل، أنهم بنوا للمدن أسوارا ثمّ أضافوا لها أجراسا وحرّاسا يصرخون لتنبيه وطمأنة الناس بأن كلّ شيء تحت السيطرة. وأخيرا ابتدعوا فكرة الإضاءة الاصطناعية على مستوى المدن.
ولم يكن من الصعب إقناع الحكومات بأهميّة صرف الأموال اللازمة لضمان نشر سيادة القانون في الليل والسماح للمواطنين بأداء أعمالهم التجارية والصناعية مع أقلّ قدر من المخاطر.
لكن كانت لدى الكنيسة أفكار أخرى بطبيعة الحال، لأن الخوف من الليل كان يصبّ في مصلحتها. وحسب المؤلّف، خاضت كلّ من الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية حربا ضدّ الإضاءة الاصطناعية لأغراض السلامة العامّة، على الرغم من أن الكنيستين أجازتا استخدامها لإنارة الاحتفالات الدينية.
في ذلك الوقت كتب راهب كاثوليكيّ يقول: إن الله لا يوافق على استخدام الفوانيس". كما حذّر قسّ في لندن الناس بقوله: إننا لا يجب أن نحوّل النهار إلى ليل أو الليل إلى نهار". لكن مع مرور الوقت، انتصر العقل وشرعت كلّ دولة في إضاءة مدنها بدءا بالعواصم. وكانت باريس أوّل عاصمة أوربّية تضيء شوارعها الشموع وذلك في العام 1667. ثم تبعتها أمستردام في عام 1669، فـ برلين عام 1682، ثمّ لندن عام 1683، وفيينّا عام 1688.
من الأشياء التي يمكن أن تؤخَذ على هذا الكتاب إصرار مؤلّفه على التأكيد على غرائبية الليل. ومن الواضح أن أجندته المعادية للنهار بشكل واضح اختطفت خياله التاريخيّ وقادته إلى عالم أسطوريّ يُضفي على الليل سمة رومانتيكية.
وبعض الاستنتاجات التي توصّل إليها مشكوك فيها، من قبيل ما ذكره من أن الليل في فترة ما قبل الثورة الصناعية كان له دور في إطاحة التسلسل الهرميّ الطبقيّ وصوغ علاقات اجتماعية حميمة نشأت عن القرب القسريّ بين الناس بسبب حاجتهم إلى حماية مشتركة.
ومن آرائه الأخرى التي يمكن أن تكون مثيرة للجدل أيضا قوله انه على الرغم من أخطار الليل، إلا انه وفّر كثيرا من الاستقلالية للعديد من الطبقات الاجتماعية المسحوقة مثل العبيد والخدم واللصوص. بل وحتى العاهرات، كما يقول، وجدن قدرا نادرا من الحرّية في الليل في تجارة ظلّت تتحدّى السلطة الأبوية.
ترى كيف يتّفق هذا الكلام مع قوله بأن "أخذ خطوتين في الليل خارج باب البيت كان أمرا محفوفا بالمخاطر"، ومع قوله انه "بعد غروب الشمس، يخرج المارقون والأوغاد كالحيوانات البرّية باحثين عن ضحايا جدد، بينما تتجوّل عصابات في الشوارع تمارس اغتصاب النساء الصغيرات بهدف السخرية من النظام القائم"؟
ومع ذلك، فإن ممّا يُحسب لهذا الكتاب أن مؤلّفه وضع كتابا كاملا كرّسه للّيل. وقد كتب الكتاب بأسلوب ساحر واستعان فيه ببحوث ودراسات كثيرة. والكتاب نفسه جديد في موضوعه، بالنظر إلى أن الكتب التي تتحدّث عن الليل قليلة، بل ونادرة.

هناك تعليق واحد:

  1. كريم ياسين...... والكتاب نفسه جديد في موضوعه، بالنظر إلى أن الكتب التي تتحدّث عن الليل قليلة، بل ونادرة.قمة ...شكرا

    ردحذف