الأحد، 9 مارس 2014

احلام فترة النقاهة........نجيب محفوظ

أحلام فترة النقاهة"هو العمل الجديد الذي طلع به صاحب جائزة نوبل للآداب الروائي المصري نجيب محفوظ الذي ما زال يثير الدهشة بالقدرة على اقتناص المفارقة والتقاط ما يثير روح التحفز في قارئه، خاصة ما يتعلق بالموقف من السلطة.

وقد ضمن محفوظ أحلامه في مؤلفه الجديد مفاهيم العدالة الاجتماعية وثنائية الشعب والسلطة التي طبعت رواياته الرمزية في نهاية الخمسينات من أمثال "أولاد حارتنا" واللص والكلاب" وغيرهما.
والحلم رقم 100 في العمل الجديد هو أشبه بصرخة حين يتواطأ الجميع على الشعب, ويتحدث محفوظ فيه عن محكمة موضع الاتهام فيه نفر من الزعماء, لكن القاضي يقرر أن يصدر حكم الإعدام في حقه هو الذي حضر الجلسة لمعرفة المسؤول عما حاق بالشعب, ولم تجد صرخاته جدوى.
146 حلما
ورغم أن الحلم الكابوس ينتهي فإن الأسئلة التي تؤرق نجيب محفوظ باقية بوعيه بأن للسلطة منطقها ولا تهتم بإعدام بريء جاء متفرجا على المحاكمة وليس طرفا فيها.
وكان الروائي المصري قد تعرض عام 1994 لمحاولة اغتيال على يد شخص لم يقرأ له, وأثر الحادث على قدرته على الكتابة وعلاقته بمتابعة أمور الحياة إلا عبر أصدقاء.
غير أن الحادث دفعه من جهة أخرى لكتابة هذه اللوحات التي يضمنها نظرته للحياة ولكثيرين ممن أثروا فيه ورحلوا مثل المطرب الملحن زكريا أحمد الذي يراه في الحلم "جالسا على أريكة محتضنا عوده ويغني وحوله الأسرة نساء وأطفالا وبينهما رجل معلق من قدميه على مبعدة طست مليئة بمية النار, وكان الجميع يتابعون الغناء دون أدنى التفات للرجل المعذب", ويترك التعليق للقارئ.
وتنشر "أحلام فترة النقاهة" مسلسلة في مجلة "نصف الدنيا" المصرية مصحوبة برسوم للفنان التشكيلي المصري محمد حجي ومقدما لها بقلم الكاتبة المصرية سناء البيسي. وجمع الكتاب 146 لوحة تقع في 118 صفحة في لغة جمعت بين الصفاء والإيجاز الشديد
حلام النقاهة الأولى (1 ـ 50):

تبدو الأحلام من رقم (1 ـ 50) غير منقطعة الصلة بأحلام نجيب محفوظ في مجموعته القصصية السابقة، فيها يركز على كوابيس الواقع وقضاياه الاجتماعية (الجهل) والاقتصادية والفلسفية أكثر من القضايا الأخرى. يرصد فيها انقلاب العالم إلى سرك كبير وتحول الإنسان في عالم الألاعيب السياسية، البهلوانية، إلى مهرج في ذلك السيرك. حيث لا سيادة للعقل ولامكان للمنطق، يعزو محفوظ ذلك إلى الواقع الراهن في العالم العربي وخارجه. واقع مأساوي يعيش فيه الملايين من المهرجين وأصحاب الأقنعة، والأشخاص غير الأسوياء الذين يحبون الإتيان بكل ماهو غريب وشاذ. وبما أن الحصار أصبح يمتد في كل مكان ويطارد الإنسان حتى داخل جدران بيته، فإن الهروب من ذلك السيرك بات أمرا مستحيلا. في الحلم رقم (1) يجسد محفوظ معاناة ذوي الدخل المحدود في بعض المجتمعات العربية التي يحكمها التفاوت الطبقي، واحساس الحالم بالقهر والخديعة، وبأنه كان ضحية غدر شائن، أو خديعة قاسية، أو قدر معاكس، عندما يسلب ماله أو حريته أو كبرياؤه. ففي ظل الغلاء وارتفاع أسعار السلع أصاب الجوع أعداداً كبيرة من الجماهير، في الوقت عينه يشير إلى الخراب الذي حل في داخل نسيج تلك المجتمعات، في إشارة واضحة لموجات الفساد واللصوصية داخله. ..بمهارة واقتدار ينسج محفوظ في الحلم رقم(5) تلك الرؤية الضبابية للسيرك الكبير الذي تعيش فيه تلك المجموعات.

إزاء الواقع المليء بالمتناقضات والصور القاتمة وحالة السلبية واللامبالاة وروح الهزيمة والعجز التي تسيطر على أعداد كبيرة من المواطنين في المجتمعات العربية. يرصد محفوظ في الحلم (21) ويكشف عن السلبيات التي تفر زها تلك الحالة، إذ تختفي الروح التعاونية بين البشر ويغدو كل شخص منكفئا على ذاته وتعم في ظل السياق الاجتماعي المفكك الفوضى والشعور بالقهر والهزيمة، وتنتشر الجريمة، إضافة لشعور الكثير من البشر بالذل والخجل من أنفسهم لعدم استطاعتهم فعل شيئ إزاء ذلك الواقع المخزي.

بشفافية بالغة يعبر محفوظ في الحلم الذي يحمل رقم (12) عن افتقاد المواطن للأمن والأمان في كثير من المجتمعات العربية، الأمر الذي يؤدي لازدياد مخاوفه من احتمال نشوب حرب،أو من مطاردة النظم والقوى الأمنية له، فتفتك به الضغوط العصبية، وتسكنه الأوهام والهموم المعلنة والخفية، والقوى الحقيقية والخيالية. كونه مهدداً دائما. يستطرد محفوظ «بأن لا يكفي لهذا المواطن من أن يكون مسالما أو بعيد الصلة عن أية ممارسات خطيرة اجتماعية وسياسية حتى يكون بمنأى عن الخطر وفي الحماية، ولا يكفي انزواؤه داخل منزله أيضا، لان هناك دائما سببا خفيا يتم من اجله إرهاب المواطن وترويعه عن طريق إلصاق تهم مجهولة به، للقبض والقضاء عليه.. لابد من الإشارة هنا إلى أن هذا الحلم يتلاقى ويتقاطع مع الحلم الخامس، والحلم الثاني عشر في مجموعة محفوظ (رأيت فيما يرى النائم) .

أحلام المرحلة الثانية: (51 ـ 146)

يركز محفوظ فيها على كوابيس الواقع السياسية والعسكرية أكثر من قضايا الواقع الأخرى. لاسيما على الأحداث السياسية والعسكرية التي تشغل العالم العربي والإسلامي، كالحروب والأحداث المتعلقة بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، والحملة الأمريكية على أفغانستان، والحرب على العراق. وسيطرة قانون الغاب، وغياب الشرعية الدولية وانتشار بعض المظاهر الواقعية السوداوية والفظاظة والغلظة الإنسانية في العصر الحديث، ومطلع الألفية الثالثة التي أفرزت الفساد و الجرائم الوحشية والممارسات الدموية والأفعال الإجرامية المنظمة والمهندسة والأحداث القاسية ووقوع الملايين في أرجاء العالم العربي والبلاد المستضعفة المغلوبة على أمرها في قبضة القلق والاضطراب والفزع. هنا يبرز واضحا شعور الفرد بهزيمته وحملها في قلبه، متوقعا الغدر و الموت في أي لحظة، من خلال تنفيذ حكم الإعدام به من دون تهمة واضحة. ينتقد محفوظ في الحلم رقم (100) الأحوال المجتمعية التي يشيع فيها الظلم والانتهاك والرمي بالباطل، فيقول الراوي موضحا بأنه من الممكن أن ينا ل الإعدام أي مواطن حتى ولو كان خارج القضية وفي مقاعد المشاهدين ويصور محفوظ مشهد النطق بحكم الإعدام عليه في قاعة المحكمة، وصراخه القوي الذي لم يعبأ به أحد. «هذه محكمة وهذه منصة يجلس عليها قاضٍ واحد، وهذا موضع الاتهام يقف فيه نفر من الزعماء، وهذه قاعة الجلسة، حيث جلست أنا متشوقاً لمعرفة المسؤول عما حاق بنا. ولكني أحبطت عندما دار الحديث بين القاضي والزعماء بلغة لم أسمعها من قبل، حتى اعتدل القاضي في جلسته استعداداً لإعلان الحكم باللغة العربية، فاستدرت للأمام، ولكن القاضي أشار إليّ أنا، ونطق بحكم الإعدام، فصرخت منبهاً إياه بأنني خارج القضية، وأني جئت بمحض اختياري لأكون مجرد متفرج، ولكن لم يعبأ أحد بصراخي»!

حلم 20
خرجنا باحثين عن مكان طيب نمضى فيه بعض الوقت، ونظرنا الى الهلال ثم تبادلنا النظر.. ورأيت على ضوء المصباح رجلاً عملاقاً لم تر العين مثله ارسل عموداً لا مثيل لطوله نحو الهلال حتى بلغ طرفه. وراح بحركة ماهرة يفرد طيات نوره حتى استوى بدراً وسمعنا اصوات تهليل فهللنا معها وقلت انه لم يحدث مثل هذا من قبل فصدقت على قولى، وانساب النور على الكون رفعنى على سطح الماء فهتفت »ليلة قمرية« فقلت »القارب يدعوننا« وركبنا ونحن فى غاية السرور وغنى الملاح رايداك والنبى رايداك، واسكرنا الفرح فاقترحت ان نسبح حول القارب وخلعنا ملابسنا ووثبنا الى الماء وسبحنا ونحن فى غاية الامتنان ولكن القمر تراجع فجأة الى الهلال واختفى الهلال.. انزعجنا انزعاجاً لم نعرف مثله من قبل، ولكننى شعرت بأنه يجب مراجعة الموقف بما يتطلبه من جدية فقلت ونحن غارقان فى الظلام »لنسبح نحو القارب« فقالت »واذا ضللنا الطريق« فقلت »نستطيع ان نسبح حتى الشاطئ« فقالت »سنكون عاريين على الشاطئ« فقلت: فليؤجل التفكير فى ذلك
حلم 35
فى بيت العباسية ونحن نأوى الى أسرتنا أيقظنى صوت ابن أخى وهو يصيح حريق فى السقف، ونهضت فزعاً وجاء ابن اخى بالسلم الخشبى وأقمناه فى الصالة وصعد كل واحد منا على جانب حاملاً ما استطاع حمله من الماء وأخذ يرشه على النار السارية بين الأركان، واقتحمت حجرة أختى، وأيقظتها من نومها العميق ومن عجب انها قامت متكاسلة ومتشاكية من أننا لا نتركها ابداً تنعم بالنوم. وعلى أى حال ساعدتنا بملء الأوعية بالماء حتى سيطرنا على النار واخمدناها وبدأنا نحقق فى الأمر ولكن رجال المطافئ حضروا على أثر استدعاء الجيران لهم وتأكدوا من خمول النار وفتحوا الشرفات وتفقدوا الأثاث الموجود بها وانتهى الحريق بعد ان أفحمنا فزعاً، وعندما جلسنا نستعيد بعض هدوئنا دق جرس التليفون ويلاحظ هنا تداخل الزمان والمكان اذ ان بيت العباسية لم يكن به تليفون وهكذا اصبحنا فى مسكن اخر مع اناس اخرين دق جرس التليفون وكان المتحدث صاحب العمارة التى استأجرنا بها شقة فى الاسكندرية ودعانا الرجل الى الاسكندرية دون ابطاء وانه شبت النار داخل الشقة وطمأننا انه استدعى المطافئ فاخمدوا النار ولكن حضورنا ضرورى بطبيعة الحال. وفى الحال ارتدينا ملابسنا انا وزوجتى واسرعنا الى محطة الباص الصحراوى وكنا فى غاية الكدر والانزعاج حتى أننا اقترحت على زوجتى اخلاء الشقة وتسليمها لصاحبها خاصة وأنها تعرضت الى محاولة سرقة قبل ذلك ولكنها قالت لى انتظر حتى نرى ماذا ضاع منا وماذا بقى
حلم 36
جمعنا بهو ما. ثمة وجوه أراها لأول مرة ووجوه اعرفها جيداً من الزملاء. وكنا ننتظر اعلان نتيجة يانصيب. واعلنت النتيجة وكنت الرابح وكانت الجائزة فيلا حديثة. وحصل زياط وتعليقات وتوهان. ولم تستطع وجوه كثيرة ان تخفى كمدها وقال لى كثيرون انه فوز ولكنه خازوق من اين لك المال لتأثيثها وتوفير الخدم اللازمين لها واستهلاكات الماء والكهرباء وخدمة حوض السباحة والتكييف الخ؟
الحق ان الحلم مازال حلماً وها أنا أتفقد الفيلا كل يوم تقريباً وأرجع بالخيبة والحسرات واستغل اناس قلة خبرتى وأقنعونى ببيعها واشتروها بثمن فرحت به ساعات حتى تبين لى اننى خدعت وسرقت.
وحدث فى ذلك الوقت ان خلت وظيفة مدير عام وكثر التزاحم حولها والمرشحون وبطاقات ذوى النفوذ وقابلت الوزير وقلت له اننى لا وسيط لى سواه ولكنه قال لى لم تستطع ان تحافظ على مالك الخاص فكيف أأتمنك على المال العام.
وصرت نادرة ومثالاً فطلبت ضم المدة الباقية لى فى الخدمة الى خدمتى واحالتى الى المعاش واخيراً وجدت الطمأنينة فى موضع لا يتطلع اليه طماع ولا ينظر اليه ذوو الطموح
حلم 37
المحمل يتمايل فوق الجمل المزين بالالوان والورود. امامه رجل يغرس فى فيه عاموداً ذا رأس تدلى منه شراشيب ورأس الجمل فى مستوى أول طابق من بيت اطل انا من نافذته وتلاقت عينى مع عين الجمل فقرأت فيها ابتسامة وغمزة وحلت لى البركة فطرت من موقعى وراء النافذة ودرت حول رأس الجمل بجلبابى وشعرى المنفوش وكبر الناس وهللوا وذهلوا لوقوع المعجزة وتماديت أنا فارتفعت فى الجو وتراجعت نحو سطح بيتى وهبطت وبعد مرور المحمل تجمع الناس امام البيت يريدون مشاهدة الانسان الطائر واذا بهم يتحولون فجأة من الاعجاب الى الخوف والحذر وقالوا ان روحاً شريرة حلت بالشخص الطائر وان طيرانه حول رأس الجمل نذير شؤم للناس جميعاً وأنه يجب ان يبرأ من الشيطان ذلك بجلده حتى يتطهر تماماً فاذا رفض الدواء عرض نفسه للعقاب المناسب وهو القتل، وركب الرعب الشاب واسرته واستنجدت الاسرة بالشرطة واشترط المأمور ان يرى المعجزة وهى تحدث امام عينيه وذهب الى البيت ورأى المعجزة وبهر بها حقاً ولكنه وجد نفسه بين رأيين الأسرة تقول انها كرامات الاولياء والناس تؤكد انه عبث من الشيطان ونذير شر. واخيراً قرر المأمور ان يضع الشاب فى السجن حتى ينسى الموضوع برمته


حلم 50
كنت اتطلع الى امراة فاتنة تسير فى الطريق فاقترب منى بجرأة وهمس فى أذنى إنها تحت أمرى إذا أمرت كان براق العينين منقرا ولكن لم أصده واتفقنا على مبلغ واصر أن يأخذ نصفه مقدما فأعطيته النصف وضرب لى موعدا لكن عند اللقاء كان بمفرده واعتذر بتوعك المرأة وكان على أتم الاستعداد لرد المقدم ولكنى صدقته وابقيته معه وكان يقابلنى فى حلى وترحالى ويطالبنى بالصبر وخشيت ان تسىء هذه المقالبلات سمعتى فأخبرته اننى عدلت عن رغبتى ولن استرد المقدم ولكن عليه الا يقابلنى ولم يعد يقابلنى ولكنه كان يلوح بها فى اكثر الاماكن التى اذهب اليها وضقت به كما كرهته وقررت الانتقال الى الاسكندرية وفى محطة سيدى جابر رايته واقفا وكانه ينتظر
97
هذه حجرة السكرتارية حيث أمضيت عمرا قبل احالتي الي المعاش، وحيث زاملت نخبة من الموظفين شاء القدر أن أشيع جنازاتهم جميعا، واسترقت نظرة من داخل الحجرة لأري من خلفونا من الشباب، فكدت اصعق لم أر سوي زملائي القدامي واندفعت الي الداخل هاتفا سلام الله علي الأحباب متوقعا ذهولا واضطرابا، ولكن أحدا لم يرفع رأسه عن أوراقه فارتددت الي نفسي محبطا تعسا، ولما حان وقت الانصراف غادروا مكاتبهم دون أن يلتفت أحد نحوي بمن فيهم المترجمة الحسناء، ووجدت نفسي وحيدا في حجرة خالية..
98
من موقفي علي اطوار أرسلت بصري الي الحديقة من خلال قضبان السور الحديدية، وهناك رأيت مالكة فؤادي وهي توزع شيكولاتة علي المحبين فاندفعت جهة باب السور حتي بلغت مدخل الحديقة وأنا ألهث وواصلت الجري في الداخل ولكني لم أعثر للمحبوبة علي أثر فهتفت بحدة لاعنا الحب. وحانت مني التفاتة الي الخارج فرأيت الفتاة في الموضع الذي كنت فيه وهي تتأبط ذراع شاب بدا أنه خطيبها، وهممت بالرجوع من حيث أتيت ولكن أقعدني الارهاق وطول المساءلة وفوات الفرصة.
99
هذا فناء مستدير تتوسطه نخلة رشيقة وتقوم في جوانبه بيوت صغيرة وعند العصاري تفتح الابواب وتخرج النساء للسمر تحت النخلة ويدور الحديث غالبا حول البنات والزواج، وأنزوي أنا بعيدا لاتابع الحديث بشغف، وعندما يهبط المغيب يعضني الجوع ولم يكن يعلم بحالي سوي صديقة طفولتي تتسلل الي حاملة طبقا صغيرا نصفه مملوء بالجبن البيضاء والنصف الآخر مفروش بالبقدونس، ونتعاون معا علي معالجة الجوع علي أنغام حديث الزواج.
100
هذه محكمة وهذه منضدة يجلس عليها قاض واحد وهذا موضع الاتهام يجلس فيه نفر من الزعماء وهذه قاعة الجلسة، حيث جلست أنا متشوقا لمعرفة المسئول عما حاق بنا، ولكني أحبطت عندما دار الحديث بين القاضي والزعماء بلغة لم اسمعها من قبل حتي اعتدل القاضي في جلسته استعدادا لاعلان الحكم باللغة العربية فاسترددت للأمام، ولكن القاضي أشار إلي أنا ونطق بحكم الاعدام فصرخت منبها اياه بأنني خارج القضية وإني جئت بمحض اختياري لأكون مجرد متفرج، ولكن لم يعبأ أحد بصراخي.
101
زينا البيت ترحيبا بالابن العائد بعد غياب، أصبح فيه نجما من نجوم المجتمع وأمضينا السهرة في الشرفة التي تمد الشقة بالمنظر الجميل والهواء النقي، واتحفنا العائد بالأشعار والألحان حتي انتصف الليل وفي الصباح وجدت مدخل الشرفة مسدودا بدولاب عملاق فخجلت، ولكن الابن لم يخف حزنه، اذ ثبت له أن أناسا من صميم أسرته لا يستلطفون وجوده ويكرهون عمله الجميل.
102
أخيرا اهتديت إلي مأوي في الدور التحتاني من بيت قديم، ولكن سرعان ماضفت برطوبته وسوء مرافقه فسعيت من جديد حتي نقلت الي الدور الفوقاني وهو أفضل من جميع النواحي، غير أن السماء أمطرت بغزارة غير معهودة فانسابت المياه من الاسقف فاضطررنا الي تكويم العفش وتغطيته بالأكلمة، وغادرنا الشقة الي بير السلم فشعر بنا ساكن الدور التحتاني الجديد فخرج الينا ودعنا بإلحاح وبشدة الي الداخل حيث الدفء والرعاية.
103
ماذا جري لبيتنا جميع المقاعد تلاصقت وسمرت قوائمها في الأرض، وخلت الاسقف من المصابيح والجدران من الصور والأرض من السجاجيد، فماذا جري لبيتنا؟
قالوا بأنه اجراء لتأمين البيت لتعدد حوادث السطو علي المنازل، فقلت دون تردد إن السطو أحب الي من القبح والفوضي.
104
رأيتني في حي العباسية اتجول في رحاب الذكريات، وذكرت بصفة خاصة المرحومة عين فاتصلت بتليفونها ودعوتها الي مقابلتي عند السبيل، وهناك رحبت بها بقلب مشوق واقترحت عليها أن نقضي سهرتنا في الفيشاوي كالزمان الاول، وعندما بلغنا المقهي خف الينا المرحوم المعلم القديم ورحب بنا غير أنه عتب علي المرحومة عين طول غيابها، فقالت ان الذي منعها عن الحضور الموت فلم يقبل هذا الاعتذار، وقال إن الموت لا يستطيع أن يفرق بين الأحبة.
105
جميع الرجال في حينا يحلقون رءوسهم في صالون عم عبده انجذابا للحسناء الجالسة خلف صندوق النقود، وتمنينا جميعا أن تتحسن حالتنا المالية فنحلق ذقوننا كل صباح في رحاب الجمال، وذات يوم وجدتني أسير في طريق متألق الجمال والنقاء، واذا الحسناء مقبلة نحوي من بعد قريب حتي اذا حاذتني التفتت الي فجأة وأخرجت لي لسانها، وبسرعة مذهلة تحول وجهها الي كتلة خشبية سميكة فذعرت وسارعت مبتعدا، غير أن ترامي الي صوت ضحك فنظرت ناحيته فرأيت الحسناء تراقص الأسطي وهما في غاية الحيوية والمرح.
106
غزا الوزارة نبأ بأن انقلابا قد وقع في الصباح الباكر فتجمع الموظفون حول التليفزيون واستمعنا الي البيان الأول، فقال موظف قديم إنه سمع هذا البيان في مطلع شبابه، أما أنا فاكتشف أن زعيم الانقلاب صديق حميم، ومن فرحتي أعلنت الخبر مسترخيا في حبور بأن الحياة سوف تضحك لي، فقال الموظف القديم: إنه قد تضحك لي الدنيا وقد أعدم بدون محاكمة.
107
أنه من تراحم عجيب، ففي حقيقته يرقد نعش كتب عليه أن هذه جنازة فلان تنفيذا لوصيته، وفلان زميل كريم اشتهر بندب حظه السييء فعلي كثرة مؤلفاته لا يكاد يعرفه قاريء، وجاء المشيعون والمتفرجون حتي بلغ الكرام المدافن وسط مظاهرة لم تشهده جنازة من قبل، و ماجاء المساء حتي كان اسم الراحل يتردد علي كل لسان.
108
غادرت القطار الجميل وقلبي مفعم بالأشراق، ولكني وجدت نفسي في خلاء مخيف، فأين إذن الحديقة التي لا يوجد مثلها في البلاد؟!
وأدركني رجل وجيه تذكرت وجه الرجل الذي تزوج من حبيبتي منذ سنوات فاعتذر عن التأخير في بدء العمل لتعاقب الحروب وأكد أن الرأي استقر نهائيا علي أن يعود هذا الأسبوع وعلي أن يتم تمامه في شهر واحد تعود بعده الحياة لأجمل صديقه في الوجود، وبخلاف المتوقع فإنني صدقته أملا أن يجيء يوم تجمع الحديقة بيني وبين حبيبتي كما جمع بيننا حي واحد في الزمان الأول.
109
هذا تلميذي يتلقي عني علوم الموسيقي والألحان وسرعان ما أصبح تلميذي نجما ثريا، وظللت أنا في الظل منسيا فتركت عملي الجميل الشاق واشتغلت بتدريب الآثار، وكف تلميذي عن التعليم والعلم وأدمن المخدرات وعرض صوته للتلف، وحدث أن جمعنا حفل ساهر فلا هو عرفني ولا أنا عرفته، وأخذت أتساءل مع كثيرين عن تدهورنا وما جري لنا.
110
إنه مشوار مرهق وعند نهايته وجدت بوابة مغلقة فاستجمعت قواي وجعلت أرفعها حتي استجابت، فرأيت وراءها بحيرة تنطلق منها صواريخ كلما بلغ صاروخ الفضاء في الفجر باعثا من الظلمة وجها عزيزا محبوبا امتلأ الفضاء بالأحبة، ومع ذلك فمازلت أنتظر سطوع الوجه الذي علمني العشق وألهمني الخلود.
111
في الجو غيم وفي الصدور قلق ويترامي إلينا من بعيد لا يتوقف، وقال صاحبي وهو يحذرني بأنهم يستهدفون حياتنا فقلت له إني عرفت أخيرا سبيل الخلاص، ولا أنكر أنه وعر كثير المقاومة ولكن ليس عندي خير منه فاتبعني إن شئت، وتفكر صاحبي طويلا ثم تبعني وهو يقول إن الأعمار بيد الله وحده!
112
يا لها من ضوضاء، فثمة أصوات متضاربة وخطوات تهرول حينا وتركض حينا وصرخة هنا وصرخة هناك وطلقات نارية وامرأة تستغيث بالله، أذهلني التشابه بين صوته وصوت المرحومة أمي، ومن فوري هرعت إلي السطوح حيث اجتمع إخوتي وأخواني وتحدث أخي الأكبر عن الاستغاثة والصوت، فقال لي بتيقن بأن الصوت هو صوت أمجنا دون غيره وليس آخر يشبهه.
113
أخيرا حضر الوزير الجديد فقدمت له نفسي باعتباري سكرتيره البرلماني، ولكنه لم يفهم كلمة من كلامي فحاولت شرح عملي ولكنه نهرني بحدة وأمر بنقلي من وظيفتي، وهكذا بدأت المعاناة في حياتي، ثم شاء القدر أن يجمع بيني وبين الوزير في مكان خير موقع وهو السجن، وبعد أن أفقت من ذهولي أخذت أذكره بلقائنا الأول وما جري فيه حتي تذكر وتأسف واعتذر، وانتهزت وجودنا في مكان واحد كي أشرح له عمل السكرتير البرلماني.
114
جاءت الشغالة الجديدة مصحوبة ببعض أقربائها وكأنهم أرادوا أن يشاهدوا المكان وأهله لتطمئن قلوبهم علي ابنتهم الوسيمة، غير أن الوسيمة لم تمكث عندنا إلا نصف يوم، ثم ذهبت تاركة في النفوس غضبا وبلبلة، حتي كان ذات مساء فرأيتها تخرج من عمارة قريبة وهي علي حال من الانحراف الصارخ فصعقتني الحقيقة الغائبة وأدركت عم كانوا يبحثون في اللقاء الأول.
115
في البدء التهب الخصام حول إصلاح البيت بين الساكنة في الدور التحتاني ومالكة البيت المقيمة في الدور الفوقاني وترامت الأصوات إلي الحارة الصغيرة ففتحت نوافذ وأبواب وأيد البعض مالكة البيت. أما الكثرة فأيدت الساكنة، واحتدم الجدل ثم تطايرت الشتائم حتي أنذر الغضب الأحمر بسفك الدماء.
116
ذهبت لتهنئة صديق قديم علي الوزارة، ولكن بخلاف المتوقع قوبلت في المكتب بفتور واضح ثم طال انتظار المقابلة دون جدوي، فتسلل إلي ظني أن بعضهم افتري علي فرية أفسدت الود القديم، وأخيرا غادرت مجلسي لا أري ما بين يدي واستقبلني زميل.
يبقي علي وده وقال لي إن لعنة الله علي ألسنة السوء فسألته ولم لم يقابلني ويتحقق من الأمر، فقال إنه مضي زمن والقانون معطل اكتفاء بأقوال الشهود.
117
كنت جالسا في المقهي وإذا بفتوة الحي يجلس إلي جانبي دون استئذان فرحبت به مرغما فقال: إنه اختارني للزواج من ابنته المطلقة، فارتعشت أطرافي وقلت: إنني سأتزوج من ابنة عمي في نهاية الأسبوع، فقال ببساطة وثقة: أنت ستتزوج من ابنتي وأنا سأتزوج من ابنة عمك.
118
وجدتني في ميدان محطة الرمل المزدحم دوما بالبشر، ولمحت في ناحيته الرجل الذي تردد كلماته الألوف وهو يغازل غانية، فهمست في أذنه 'إذا بليتم فاستتروا' فقال: وهل ثمة ستر أقوي من ملابسها.
119
وصلت إلي المحطة في الوقت الحرج واتخذت موقعي في الطابور الممتد إلي شباك التذاكر. ظللنا بين القاطرة والشباك حتي انطلقت صفارة الإنذار الأخيرة ومازلت علي مبعدة من الشباك، وهكذا فاتني القطار.
120
قمنا برحلة إلي المملكة التي تغني بروعتها الشعراء، وهناك انضم كل فرد إلي المرشد الذي اختاره يتنقل به من مشهد إلي مشهد ومن جبل إلي بحيرة ومن متحف إلي مقبرة، وقال المرشد: إنه لم يبق من الرحلة إلا الحديقة البللورية، ودعنا الي شيء من الراحة والتأمل كي لا يصدمنا الانبهار فسألنا: وهل ثمة انبهار يفوق ما شاهدنا من أحياء وأشياء، فابتسم المرشد وواصل السير ونحن في أثره.
121
رأيتني أسير في شارع كورنيش الإسكندرية مستهدفا العمارة التي أري في إحدي شرفاتها السيدة الأنيقة بصحبة زوجها وأبنائها الشبان، فلما فتر الهدف ذاب المنظر ذوبانا سحريا ناعما حتي اختفي وحل محله شارع العباسية، ومازلت أسير نحو العمارة الجديدة التي تطالعني من إحدي نوافذها الفتاة التي لا تنسي، ولكني وجدت النافذة خالية فقررت الانتظار كالعادة في محطة الترام، ولكني لم أجد للمحطة أثرا ولا لقضبان الترام أثرا علي طول الشارع.
122
الليل سجي فاحتوتنا غرفة وهبتنا الظلمة راحة عابرة وفرحا حميما، وترامي إلينا من الطريق ضجة، فهرعت إلي خصاص النافذة فرأيت قوما يحدقون بشخص مألوف الهيئة وينهالون عليه باللعنات واللكمات، وهو مستسلم لم يقاوم حتي شعرت بالكلمات تخرق جسدي.
123
هذا ميدان الأوبرا وفيه أسير متجها نحو مقهي الحرية، فأدهشني أن أجدها خالية من روادها اللهم إلا شخص منكب علي قراءة أوراق مبسوطة بين يديه، وسرعان ما تبين لي أنه أستاذي الشيخ مصطفي عبدالرازق، فانشرح صدري واندفعت نحوه مشتاقا إلي لقاء حميم غير أنه التفت إلي متجهما فهبط قلبي، وأشار الأستاذ نحو الأوراق وقال لي: آسف إنه قرأ اسمي بين شهود الإثبات، فلم أدر ماذا أقول ولا كيف أعتذر؟
124
كثيرا ما اجتمعنا بمكان بقع بين الحقول من ناحية والطريق العام من ناحية أخري، وحتي قال لي صاحبي إن هذا الموقع لا يضمن السلامة في كل الأحوال، ومن لحظتها سكن القلق في صدري حتي استيقظت ذات صباح علي ضجة وصياح، فقمت إلي النافذة فرأيت جموعا لا يحصرها حصر وجماهير لم أميز فيها سوي الغضب الأحمر.
125
توجهت إلي مسكني فوجدته يمور بالحركة ولا شيء من الأثاث في موضعه، وثمة غلمان وبنات لا أعرفهم يلعبون هنا وهناك دون أن يحسوا بحضوري فانقبض صدري، ودلفت إلي الشرفة المطلة علي حديقة قريبة مني، وفيها شجرة ضخمة تمتليء أغصانها بالعصافير المزقزقة، وكانت الزقزقة وحركة العصافير قد أنستني كل شيء غير صوت العصافير وهي تغرد.
126
ذهبنا لتهنئة الوزير الجديد بوصفنا أصدقاء قدامي فرحب بنا، ووجدنا أحباء آخرين فرجعنا معهم إلي عهد الصبا، وفي الصباح التالي أذاع الراديو البيان الأول لحركة الجيش، وعندما ذهبنا إلي السكرتارية للترحيب قال لنا لا تسهبوا في الترحيب قبل أن تعرفوا القادم.
127
في حديقة هذه الفيلا نجتمع مساء للسهر والسمر في حرية شاملة، ولكن صاحب الحديقة تغير فجأة فاستبد بكل شيء، فهو يختار موضع الجلسة وموضوع الحديث والأكل والشرب، وحسبناها دعابة ولكنه استمر وتمادي فضقنا به ذرعا غير أننا اخفينا مشاعرنا إكراما للموقف. إلا واحد لم يستطع إخفاء مشاعره، وذات مساء انفجر غضبه المكتوم وجن جنونه فصرخ، وأخرج من جيبه مسدسا صوبه نحونا بيد مرتجفة فتفرقنا في الحديقة تطاردنا لعناته وشتائمه.
128
هذا محل لبيع التحف يتألق نورا وبهجة، وتجلس في خدمة ضيوفه شابة آية في الجمال، وطفت به حتي صادفني مطعم صغير فتناولت ساندوتشا ودخنت سيجارة والتفت لرؤية الشابة الجميلة، لكني وجدت مكانها امرأة طاعنة في السن فانقبض صدري وأرسلت ناظري باحثا عن الجميلة، فمضيت في حيرة بمرآة فوقها مشهد به صورة عجوز يتوكأ علي عصا غليظة قد أعياه المشي والقلب والذاكرة.
129
مازلت في صباحي مستوصيا بالصبر والعزم والاستمرار حتي بلغت مرتفعا أوحي إلي بأخذ شيء من الراحة، وهنا لمحت صبيا يكافح للصعود، فرق له قلبي ومددت له يدي، ولكنه جذبني بقوة لم تجرني في جناحه، فهربت أتدحرج ولا أملك لنفسي شيئا.
130
صحوت من نومي علي أصوات تناديني غير عابئة بوقار الليل، وسرعان ما عرفت منها أصوات صديقات الزمان الأول، وكن يذكرنني بالميعاد الذي لم أنجزه فتلفحت بالروب وهرولت إلي الخارج، ولكني وجدت الشارع خاليا والصمت سائدا.
131
لقاؤنا في هذا الركن من الغابة وحياتنا طرب مستلهم من المواويل، وسماؤنا سحب من دخان رقيق عاطر، ونحن كأننا نائمون أو غافلون، وذات يوم اقتحم هدوءنا غناء غريب مجنون الإيقاع شديد الصخب فذهلنا ورأي بعضنا إسكاته ولو بالقوة علي حين آثر البعض التأمل والحكمة، وعلي أي حال فقد استيقظ النائمون وتخفر الغافلون.
132
هي وأنا ماضيان كالعادة إلي ملهي، وفي الطريق استأذن دقيقة ريثما يشتري سجائره ولما رجع لم يجدها فعلم علي ظنه إنه سبقته إلي الملهي المتفق عليه فذهب إليه ولكنه لم يجدها، فراح ينتقل من ملهي إلي ملهي باحثا عنها، وحتي هذه اللحظة لم يكف عن البحث.
133
جائزة مقدارها مائة جنيه لم أعرف قبلها من النقود إلا راتبي الصغير، فأملت أن تكون الخطوة الأولي في طريق الثراء. فم من زميل بدأ من الصفر ثم أصبح من كبار الأغنياء، وسألت أحدهم عن الوسيلة فضحك وقال لا تسل عن الوسيلة فلايجهلها أحد، ولكن سل عن الشخص والزمن.
134
جمعتنا المواعيد في الطريق الزراعية، فجعلنا ننشد الأشعار ونغني ما طاب لنا من الألحان حتيسرقنا الوقت، فغاب قرص الشمس ونحن لا ندري، فتذكرنا أنه عند هبوط الظلام يترامي إلينا عواء الذئاب من جهات كثيرة..
135
اشتقت لرؤية أهلي فانتقلت من فوري إلي البيت القديم، وهالني بأن أجده غارقا في الظلام كأنهم استأنسوا بالظلمة، فناديتهم معاتبا رجلا رجلا وامرأة امرأة، ولكن لم يجبني أحد.. رجعت أكرر النداء حتي دمعت عيناي..
136
رقد جثمان أختي علي الفراش، وقفت أمامه ومعي حبيبتي خاشعين، علي حين تربعت علي الفراش صبية جميلة تغني غناء شجيا، وجري الزمن فأصبح الجثمان الراقد علي الفراش، وهو جثمان حبيبتي، ووقفت أنا وأختي أمام الفراش خاشعين، واصلت الصبية في موضعها تغني غناءها الشجي.
137
يالها من حديقة لا أول لها ولا آخر يقطر من سمائها الصفاء وتتواري أرضها تحت الشجر، وجلسنا في ظل شجرة لنأكل ونشرب، وإذا بصوت يخبرنا بأن المغنيات والراقصات آتيات آتيات، وصوت آخر يحذرنا من الاستماع الي الأمثال والحكم التي تذم بصلب الدهر وتحدي الأيام، وقال إن حسبكم هذه الأشجار المثقلة ثمارها بالهناء والسرور.
138
شارع طويل عريق وأنا أسير فيه علي مهل غافلا عما حولي، وأذ بيد تربت علي كتفي، فالتفت أمامي فرأيت امرأة آية في الجمال والرشاقة ودهشت فابتسمت فابتسمت فأسرعت نحو بيت أنيق أخضر، فاستقر رأيي علي أن أتبعها، ولكنني التفت حولي لحظة ليطمئن قلبي، وفي هذه اللحظة تدفق جنود الأمن حتي سدوا الطريق سدا وتعذر عليٌض التقدم، ولكن عينيَّ لم تتحولا قط عن البيت الأنيق الأخضر.
139
هذا معرض اشتهر بصوره الفنية التي تتغير شكلا ومضمونا كلما اقترب منها المشاهد، وأول ما طالعني صورة غابة آية في الجلال ولما اقتربت خطوة تلاشت الغابة وحلت محلها صورة امرأة عارية متعددة المحاسن، وعند الخطوة التالية غابت المرأة وظهرت محلها صورة معركة حامية الوطيس اشتعلت فيها كافة أنواع الأسلحة من الأحجار وحتي الالكترونات.
140
هذه امرأة ثرية المحاسن ما إن رأيتها حتي غازلتها، وإذا بزوجها ينقض علي ويأبي أن يتركني إلا في القسم، ولكن تداخل رجل من حينا اشتهر بين خاصة معارفه بالدعوة الي الحرية المطلقة، ففررت بعد أن لقنني درسا لا ينسي ويتجسد لي كلما قابلت امرأة، حتي رأيت نفسي وجها لوجه مع المرأة الجميلة فهممت بالجري، ولكنها أقبلت علي باسمة وتأبطت ذراعي وهي تهمس بأن زوجها اعتنق أخيرا دعوة الحرية المطلقة.
141
هذا حينا القديم الجميل، وهذا أنا أجول في أركانه حاملا في قلبي ذكرياته، ثم خطر لي أن أقيم في البيت القديم حتي تخف أزمة المساكن، ولكن تبين لي من أول يوم أنه لم يعد صالحا للحياة الحديثة.
142
هذه القطعة من الأرض الفضاء هي ميراثي الوحيد، وقد أطلق عليها اسم الخرابةلطول ما عانت من إهمالها، وما أن رزقت بعض المال حتي فكرت جادا في تعميرها، ولكني لم أقدم لكثرة ما عرفت من حوادث النصب وفساد الذمم، حتي سألت جاري الحكيم: ألايوجد في الدنيا شخص خير؟ فأجابني بأنه موجود، ولكن يتطلب العثور عليه عزما وشجاعة وبحثا لايتوقف.
143
سمعت صوتا غير مألوف فمرقت بسرعة إلي فناء العمارة فرأيت رجلا غريبا أثار في نفسي الريب، فناديت البواب ولقت نظرة إلي الرجل الغريب، فأخبرني بهدوء أنه موظف ويؤدي واجبه الرسمي وهو أخذ الزائد من الأفراد من المساكن المكتظة وينقلهإلي مسكن يتسع له، فاعترضت قائلا إنه يأخذ فردا من أسرة ويخلف حزنا وينقله علي رغمه إلي مكان لايرحب به، فقال البواب بأن هذا هو القانون ونحن لا نملك حياله إلا الإذعان والتسليم.
144
نظرت في ظمات الماضي فرأيت وجه حبيبتي يتألق نورا بعد أن دام غيابها خمسين سنة، فسألتها عن الرسالة التي أرسالتها لها منذ أسبوع، فقالت إنها وجدتها مفعمة بالحب ولكنها لاحظت أن الخط الذي كتبت به ينم عن إصابة كاتبه بداء الخوف من الحياة وبخاصة من الحب والزواج، ولما كنت مصابا بنفس الداء فقد عدلت عن الذهاب إليك وفكرت في النجاة فلذت بالفرار.
145
هذا مهرجان عظيم جمع العديد من رموز الأمم، وناداني رئيس المهرجان وسلمني كرة وهو يقول إنها هدية المهرجان لك وهي من الذهب الخالص، وأنهالت عليَّ التهاني، ولما رجعت أعلنت نيتي علي التبرع بنفس الهداية لأعمال الخير فجاءوا بمنشار وأخذوا يقسمونها، ولما وصل المنشار إلي باطن الكرة دوي المكان بانفجار مزلزل وتطايرت شظايا الضحايا من الإنسان والحيوان والنبات والجماد.
146
انتصر العدو واشترط لوقف القتال أن يتسلم تمثال النهضة الذهبي المحفوظ في الخزانة التاريخية، وذهبت مع فريق لنحضر مفتاح الخزانة المحفوظ بالصندوق الأمين، ولما كشفنا غطاء الصندوق تبديلنا ثعبان مخيف ينذر بالموت كل من يدنو منه، فتفرقنا وأنا أداري فرحتي وأدعو للثعبان بالسلامة والتوفيق في حفظ المفتاح
الحلم 177
ثالوث التقدم
أقيم سرادق كبير للاحتفال بالحزب الجديد وظهر فى المنصة الزعيم مصطفى النحاس واستقبل بالهتاف والقى خطاباِ يشرح فيه مبادئ الحزب وفى مقدمتها الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية ولما رجعنا الى المكان الذى نجتمع فيه كل مساء قلت لهم اننى لما رأيتهم يحتفلون ذكرتهم بفرحتهم يوم حريق القاهرة واقالة وزارة النحاس فقال لى أحدهم ان تلك الفرحة هى خطيئتهم الكبرى وأنهم كفروا عنها فى اجتماع اليوم.
يظهر الزعيم مصطفى النحاس خليفة الوفدى العظيم، والليبرالى الكبير فى سرادق الوطن الذى يتوسطه تعانق الهلال مع الصليب، ومصر للمصريين، وأن الدين لله والوطن للجميع، ويعلن فى احتفاله عن مبادئ التقدم، وآليات التنوير، التى تربى عليها نجيب محفوظ، ورسخت فى وعيه، واخلص لها فى أعماله، وظل ابناً باراً لتلك التعاليم فلم يغيره الزمن، أو تقلبات السياسة يلخص الزعيم الوفدى والخليفة الليبرالى مبادئ الوفد الأصيلة التى أنارت سماء مصر وحررت الوعى ورسمت طريقاً لوطن يدرك فيه المواطن مواطنته، ويعرف مقدار وضعيته السياسية والتاريخية، فالجماهير الأحرار تنصت للزعيم الحر الذى يشرح لجماهيره المبادئ الثلاثة للوعى السياسى وأنه اركان الوطنية، والمواطنة، المواطن لا تتحقق الا بتلك المبادئ الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، والوحدة الوطنية، فلا وطن للحريات او تداول سلطة، او تعددية سياسية.
ـ الديمقراطية مفهوم اصيل فى وعى النحاس كذلك فى وعى محفوظ الذى جاوز التسعين لكنه مازال يحلم، ويكتب، ويؤكد أن الديمقراطية ركن اصيل من اركان التنوير، واساس ليبرالى عريق لتحرر الوعى، وتقدم مصر، محفوظ ابن ثورة 19 وابن ذلك التراث العريق من النضال من اجل مواطن حر،لا يكون الا بتحقق العدالة الاجتماعية فلا ديكتاتورية فى توزيع الثروات، ولا ديمقراطية بدون ان يكون هناك عدل اجتماعى ولا ازالة للفتن مثل ما للعدل الاجتماعى فقانون الحياة يقتضى الصراع بغير ظلم، ويأتى الركن الثالث والاقنوم الذى يقوم عليه الركنان الديمقراطية والعدالة الاجتماعية فبهما يتحقق التنافس الحر حيث المساواة، والتسامح والمحبة هى آليات المجتمع الديمقراطى فلا تمييز او محاباة هكذا يحلم نجيب محفوظ، وهكذا تكون المبادئ لأى حزب جديد هى مبادئ الوفد الراسخة فى ضميره، والتى يكررها، ويؤكد ع ليها ويحلم بها، ويكتب عنها، من اجل مستقبل حر لوطن حر، وحين يعود يذكرهم الحالم نجيب محفوظ بخطيئتهم الكبرى حين اقالوا صاحب تلك المبادئ، يوم ان احترقت القاهرة بنيران الفاشية فكانت تمهيداً لما هو آت، ونبوءة عن القادم، الذى احرق الاخضر واليابس، وردم مبادئ النحاس، وتخلى عن مكاسب جماهير ثورة ،19 فكان الحريق، وكان الاقصاء للنحاس اقصاء لحرية الوطن، يذكرنا نجيب محفوظ، بأن الخطيئة الكبرى التى يجب ان تكفر عنها الجماهير هى العودة الى حارتنا الاصيلة، حارة ثورة 19 ومبادئ النحاس وان الذات السياسية التى هللت للحريق، فوجئت بالاقالة كانت كمن باع روحه، ولم يسترد ذاته، وكان ذلك التهليل كما سلم يهوذا المخلص، فوجب ان نعلن ندمنا، ونكفر عن خطيئتنا بالعودة الى السرادق الكبير والاستماع الى خطاب النحاس ومبادئ التنوير وفى مقدمتها الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية ذلك عودة الوعى الحقيقي، والاجتماع الجدير بالاحتفال
الحلم 189
وزارة النحاس المحفوظية
رأيتنى وزيراً فى وزارة يرأسها مصطفى النحاس وجعلت أفكر فى مشروع انشاء مدارس اولية وابتدائية وثانوية بلا مصروفات ولا رسوم للمتفوقين والمتفوقات من أبناء الفلاحين والعمال على أن نتابعهم بالرعاية فى الجامعة والبعثات، وعرضت الموضوع على الزعيم، فرحب به واضاف اليه تعديلاً أن تخصص تلك المدارس للمتفوقين والمتفوقات من أبناء الأمة كلها، وطلب منى أن أقدم المشروع فى مجلس الوزراء القادم ووعد بتأييده.
لأن الحالم وزير فى وزارة وفدية، أتت بدستور ،23 وحررت وعى المصريين، وأنارت دنياهم السياسية بمصابيح التنوير وناضلت من اجل استقلال الذات المصرية، لانها وكيلة وفود الشعب، والوفد نائب عن الأمة، والأمة هى مصدر السلطات ، والنحاس هو امين الأمة، والحارس لتراث، ومكاسب ثورة ،19 وخليفة الزعيم الليبرالى سعد زغلول، وحين تكون وزيراً فى وزارته فلا تفكر الا فى البناء، ولا تطمح الا بالتقدم ومن كان هذا هدفه، وتربة الوفد جذوره، ووعى ثورة 19 عقليته، وذهنيته، فالطريق لذلك لا يكون الا بتكوين عقل يؤمن بالمعرفة، ويعرف اليات العلم، ويترك وسائل التعليم، فيفكر وزير النحاس فى عقل الأمة، وكيفية إخراج انسان جيد ، وقاهرة جديدة والطريق بالتعليم، فيعرض على النحاس انشاء وزارة تعتنى بالتعليم فتقيم مدارس واماكن للمعرفة والتعليم، والتنوير لمختلف المراحل، ولجميع مستويات العقول ولان الثورة بنت الشعب ومن الشعب والى الشعب، فأماكن المعرفة،، والتقدم، والتنوير، والتعليم لا تكون الا لأبناء الشعب من الفلاحين والعمال فهم حائط الوفد، وأعمدته الرئىسية ووقود الثورة والراوى والحالم يبصر مشروع المستقبل، ويدرك رأس المال الحقيقى باستثماره فى المعرفة والتنوير هكذا كانت الثورة، وكذلك تكون فبغير التعليم والمعرفة لا يكون الهروب من التخلف.
وحين يعرض المشروع على الزعيم مصطفى النحاس امين الأمة، التاريخ، والواقع السياسى البصير بالآتى، والمخلص لرفعة الأمة، وازدهارها، الواعى بأن المعرفة وسيلة الرخاء ولانه ابن الشعب، ووفد الشعب فإنه يضيف تعديلاً يناسب رؤية الزعيم فلا تخصيص ولكن التعديل شمل ابناء الأمة كلها،ووعد بتأييده، هكذا من يكون وزيراً فى وزارة النحاس، وهكذا يكون الزعيم حيث يرى برؤية شاملة، ويبصر المساواة فى المواطنة، وكذلك يبصر ان التعديل الحقيقى للدستور القادم لا يكون الا بالغاء ذلك البند الذى انقضى تاريخه وضاعت وضعيته ولا يناسب المقام، فالزعيم يدرك ان الوطن للجميع فلا تمييز، ويوسع من المفهوم الشعبى للحالم والراوى والوزير ولا وعى الحالم يرشدنا الى تأييد تعديل الزعيم مصطفى النحاس، فالأمة، لكل الأمة، والمواطنة لكل مواطن، والمساواة لكل أبناء الشعب فالأمة مصدر السلطات والوطن للجميع.
حلم 204:
«رأيتني مديرا لشؤون السينما وجاءتني الفنانة «ف» تطلب إعفاءها من العمل مع الممثل «أ»، فانزعجت وقلت لها إن هذا سيغير الخطة كلها، ولكنها أصرت على موقفها، ثم جاءني الممثل «أ» وطلب مني الضغط عليها فاعتذرت. وراحت هي تقول للوسط الفني إني أضغط عليها لتعمل مع الممثل «أ» صديقي على رغم إرادتي، وراح يقول إنني سهلت لها التحرر من العمل لغرض في نفسي، فلعنت اليوم الذي توليت فيه هذا المنصب».
حلم رقم 205:
«رأيتني أشاهد دورية من الجنود الأجانب فضربتها بحجر وصعدت الى السطح وعبرت الى سطح الجيران وهبطت السلم لأهرب من باب البيت فوجدته مسدودا بجنود شاهرين السلاح».
حلم رقم 206
" رأيتني اعد المائدة والمدعوون في الحجرة المجاورة تأتيني اصواتهم اصوات امي واخوتي . صحوت فاقدا" الصبر فهرعت الى الحجرة المجاورة لأدعوهم فوجدتها خالية تماما وغارقة في الصمت واصابني الفزع دقيقة ثم استيقظت ذاكرتي فتذكرت انهم جميعا رحلوا الى جوار ربهم وانني شيعت جنازتهم واحدا بعد الاخر "







فؤاد نصر الدين / القصة القصيرة جدا في مختبر السرد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق