الخميس، 16 يناير 2014

يوم في غرناطة




كانت الساعة الخامسة صباحاً عندما اهتز المنبه معلناً حلول الوقت للانطلاق. ارتديت ملابسي بأقصى سرعة ممكنة. خرجت من الفندق الذي يحيطه من الأمام البحر ومن الخلف سلسلة الجبال، باتجاه محطة انتظار القطار. كان الجو بارداً برودة شديدة، لا وجود لأي لمحة من لمحات الفجر الأولى في تلك المدينة: ماربيا. مرت دقائق قليلة ثم وصلت عائلة مكونة من ثلاثة أفراد من روسيا متجهين إلى غرناطة. كُسر حاجز الصمت معلنا قدوم مواكب متعددة لباصات تتوقف في محطات الانتظار وفي الفنادق لتحمل السياح إلى منطقة واحدة. وصل الباص السياحي في تمام الساعة السادسة صباحاً. كل من على متن الباص سياح من دول مختلفة وإن كانوا في سن متقاربة. كانوا كباراً في السن: فرنسيين وإنجليز وألمان وأمريكيين ومن أمريكا اللاتينية. انطلقنا، وكنت أظن بأننا انطلقنا حقاً إلى المدينة المقصودة، وما حدث أننا وصلنا إلى المدينة المركزية ملقا، ليحمل الباص آخرين سيذهبون معنا. الجميع سيذهب إلى مدينة أبعد من ملقا بساعات قليلة، لكن لماذا لا يتوقف السياح في هذه المنطقة قليلاً؟ تبدو صورة مغرقة في العبثية أن أدعو السياح المرافقين للتوقف في هذه المدينة. ولماذا يقفون في هذه المدينة الحديثة والمميزة؟ ما الذي تحمله حتى يتوقفوا قليلاً؟ مررنا بها مروراً سريعاً، ويبدو أن الأديب والمؤرخ والدبلوماسي الأمريكي واشنطن إيرفينغ لم يمر بهذه المدينة وهو في طريقه إلى غرناطة. لم يذكر في كتاب الحمراء أنه مر من هنا. لكن في كتابه الآخر زارها وهو يبحث عن سجلات غرناطة قائلاً: من يقدر أن يرى ما حصل بك يا ملقا دون أن تغرق عيناه بالدموع وبالحزن المرير المؤلم؟ كان يتحدث عن ذلك الحصار الخانق على ملقا, وعلى تلك المدينة التي أضحت مقبرة هائلة. كانت هذه المنطقة العمود الفقري لغرناطة. إذا انتصرت تهللت غرناطة فرحاً وسعادة, وإن تعرضت لسوء, لن يمر وقت طويل حتى تلحقها غرناطة. في مكان لا أعلمه, وقد يكون الآن معلماً أثرياً أو قد يكون المطار الذي يقدم خدمات ممتازة, وقف الملك فرديناند مع قواته مرحباً بقدوم إيزابيلا التي حضرت وهي محملة بالدعم من قوات و مواد لاقتحام ملقا التي يحرسها المقاتل الذي تحول لأسطورة حامد الذعري. كانت المدينة تأن تحت حصار خانق. حين عاد حامد من هجومه الانتحاري الأخير قامت امرأة بقذف أطفالها أمام جياد حامد قائلة: إدهسهم بحصانك، فنحن لا نستطيع إطعامهم ولا تحمَل بكاءهم الذي يقطع أكبادنا. لا أصدق أن تقوم أي أم بقذف أطفالها هكذا. ولكن، أين العقل في موقف مثل هذا: حين لا تجد الأم ما تطعم به صغارها، وحين لا يجد الكبار إلا الخيول التي تحولت لوجبة نهائية وأخيرة لهم؟ تقف مثل هذه الأم في حصار خانق: تتطلع إلى الأمام وتجد معسكرات فرديناند وإيزابيلا تحمل كل ما لذ وطاب. ولو تطلعت للخلف ستجد الزغل الذي يجمع قواته محاولاً نجدة ملقا في صراع طاحن مع ابن أخيه ملك غرناطة، ببدول الشيكو وهو يحاول منعه من نجدتها مقدماً خدماته كحليف لفرديناند. لم يكن الحصار هو الذي يحمل تلك الذكريات وحسب. شروط الاستسلام التي رفعها الأهالي لم تجد صدى يذكر إذ رفضها فرديناند بكل ما فيها معلناً الموت لمن يرغب أو الأسر، وهذا ما حدث. أكثر من خمسين ألف لم يعد لهم وجود. البعض منهم أصبحوا عبيداً سيقوا إلى نبلاء أوروبا، والبعض زج بهم في سجون محاكم التفتيش مثل حامد الذعري.

ما إن بدأ الفجر بالظهور حتى تحول الطريق العام إلى خط طويل من الباصات السياحية، تحمل السياح من نقاط تجمع محددة. ثم انطلقنا أخيراً في تمام الساعة الثامنة. لم أكن أحمل في ذهني أي أمر أو فكرة عن المدينة المقصودة: غرناطة. كنت أرى بعيني الطريق مخترقاً الجبال الشاسعة الخضراء على امتداد البصر. مرتفعات كان لها شأن في الماضي: على سفوحها كتبت قصائد وملاحم وغزوات وانتصارات وهزائم. ما الذي حدث على سفح ذلك الجبل؟ لم أطرح هذا السؤال في ذهني صراحة ذلك الوقت إذ كنت استمع للمرشد السياحي الذي يتحدث بأربع لغات: يشرح محطات التوقف وأوقات الزيارة والغداء والرحيل من غرناطة. توقفنا الساعة التاسعة صباحاً للإفطار ثم سرنا بعد ثلث ساعة في طريقنا للمدينة. تباشير الوصول كانت معروفة حتى لمن لم يزر غرناطة يوماً، بالجبال التي ترتفع كلما تقدمنا. ها هو المرشد السياحي يتحدث بكلمات مختصرة عن فرديناند وإيزابيلا وأبي عبدالله الصغير. في تمام الحادية عشر ظهراً دخلنا غرناطة. جولة صغيرة في طريقنا إلى ذلك الأثر التاريخي الذي قيل بأن من صنعه كان ساحراً وخبيراً بالكيمياء: الحمراء، والتي وصفها إيرفينغ بكعبة زوار أسبانيا، من الذين ينشدون رؤية الجانب التاريخي والشعري الرومانتيكي لتلك البلاد. كم من أسطورة وتقليد صحيح ووهمي، وكم من رقصة وأغنية عربية وإسبانية حول الحب والحرب والفروسية مرتبطة بهذا الركن التاريخي.


انقسم الجمع المرافق لنا إلى أقسام: مجموعة تذهب مع مرشد يتحدث باللغة الإنجليزية، ومجموعة مع مرشد يتحدث الألمانية .. الخ. عندما وضعت السماعة التي أسمع من خلالها المرشد السياحي تساءلت: ماذا سيقول هذا الرجل -والذي يبدو أنه من سكان غرناطة- عن ذلك الأثر الذي أقرأ أنا من خلال زخارفه ما لا يستطيعه السياح الآخرون؟ هل سيكون معتدلاً في سرده خصوصاً أنه لم يتحدث عن الأثر التاريخي في البداية بقدر ما عاد إلى بدايات الحكم العربي والإسلامي في الأندلس. عن عبدالرحمن الداخل وملوك الطوائف ثم أبو الحسن وأخيه الزغل وببدول الشيكو؟ ثم لماذا الافتراض بأن ما يقوله ليس صحيحاً. قد يكون صادقاً في كل حديثه. هل يجب أن تعجبني الأحداث التاريخية وتنتمي إلى إرثي الديني والثقافي في حالة الانتصار حتى أعلن بأن ما سيقوله هو الحياد؟

لم أزعج ذهني بهذه التساؤلات إلا قليلاً إذ بدأنا في الدخول إلى الحمراء من البوابة الرسمية والتي تدعى باب الشريعة. قصر تاريخي ضخم محاطاً بجبال السيرا نيفادا من كل نواحيه، رمز غرناطة ومصدر هوائها العذب وينابيعها المتفجرة وجداولها المترقرقة. هذا الصرح الجبلي هو الذي يعطي غرناطة بهجة نادراً ما توجد في المدن الجنوبية. الهواء العليل القادم من الجبال والمحمل بشذى السهول يصل إلى الحمراء قبل المدينة الأكثر حراً تحتها. يلعب هذا الهواء الرقيق القادم من سيرا نيفادا بقاعات الحمراء مدخلاً معه عبق الأزهار المجاورة. تسمع صوت الماء صاعداً إلى الأعالي بتصميم هندسي ذكي لم يوجد في عموم أوروبا. الأشجار العالية تحيط بأبراج المراقبة العسكرية. على قمة أحد هذه الأبراج تشاهد ذلك النتوء الصخري الذي يعتبر أعلى منطقة على الأرض الأسبانية. على بعد أميال قصيرة من هذه المنطقة وقف أبي عبدالله الصغير ليلقي النظرة الأخيرة على غرناطة. لم تظهر المدينة بمثل هذا البهاء سابقاً لعينيه، الشمس كانت لامعة في ذلك المناخ الشفاف لدرجة أنها أضاءت كل برج ومنارة ومسجد وهي تستريح بكل مجدها فوق مواقع القتال، بينما الفيغا تحاول أن تزدهر ثانية بخضرة خجولة. شاركه النظرة الأخيرة هذه فرسانه المرافقون بكل ألم على فراق هذا الوطن، مسرح مسراتهم وحبهم وآمالهم. وبينما كانوا يتأملون كل هذا ظهرت نفخة دخان من القلعة على أثر قذيفة مدفع أعقبها صوت ضعيف لامس آذانهم أن ملك المسلمين قد زال عنها للأبد.
في مكان ما حيث أقف، تسلم أبو الحسن الحكم من أبيه. كان يذهب في كل سنة قبل تسلم الحكم إلى قرطبة ومعه الجزية المفروضة على غرناطة. قيل بأن الهمز واللمز وقت تسليم الجزية يثير غضبه. ما إن تسلم الحكم حتى توقف عن دفعها بشكل كامل، موقناً بأن ما لديه الآن كجزية هو السلاح والاحتكام إلى الحرب. ولكي يعلن صراحة حقيقة وجوده وقراره الحازم، شن حملة عسكرية انتهت بسقوط قلعة الزهراء. عندما عاد خرج أحد الدراويش وهو يصرخ: يا هو يا غرناطة، وقت زوالك قد آن!

يكثر الازدحام عند فناء الريحان الكبير وعند قاعة العدل وبهو الأسود المحاط بإثني عشر أسداً في مساحة مقسمة على أربع أقسام. كل قسم كان محاطاً بالورود والأشجار. وعند بهو السفراء الذي يعتبر الأضخم بتصميم هندسي يضفي جمالية لم تعهدها القصور الملكية الباردة في أوروبا، بنقوش في السقف بأشكال من المستطيل والمثلث لا يمكن معرفة مركزها إذ هي متدرجة وتضيء مع أشعة الشمس التي تخترق الغرفة في اتجاهات قياسية أعدت بدقة. على كل جدار، فوق الأسقف، يوجد الشعار الذي أضحى رمزاً لبني نصر: لا غالب إلا الله.

في داخل أحد البيوت الصغيرة يبدو وكأن من كان يسكن هنا كان يعيش في جنة الله. إن أراد فاكهة لا يحتاج منه الأمر إلا مد يد واحدة حتى يقطف الفاكهة التي تنمو في سقف المنزل. يريد ماء؟ يمد كوب الماء فقط وسينزل الماء بارداً كأنه الزلال. على الجهة الأخرى يوجد قصر أقيم بعد سقوط غرناطة، قصر بتصميم روماني مخصص لكارلوس الخامس. لا يلتفت السياح إليه لشذوذه عن القصور المحيطة به ولعدم اكتماله كذلك بفعل الزلازل التي أعاقت إكمال القصر. أسمع المرشد السياحي وهو ينعت فرديناند بالخائن الذي لا يحفظ المواثيق ولا العهود ويتحدث بأسى عن الموريسكيين. بعد جولة استمرت ساعتين ذهبنا إلى منطقة جبلية لمشاهدة الحمراء من الأعلى. من المحتمل أن تكون هذه المنطقة هي آخر ما رأته عينا أبي عبدالله الصغير وهو يغادر الحمراء، للأبد. وقد تكون الجهة المعاكسة التي وقف من خلالها واشنطن إيرفينغ مودعاً الحمراء بعد فترة قضاها في ربوع الحمراء. أين أنا الآن؟ وأين كنت، وما هو ذلك الأثر الذي يحمل الأنات والذكريات والانتصارات والهزائم؟

- 2 -

السقوط، والاغتراب والنفي داخل الوطن، ثم الإقصاء الكامل واقتلاع الجذور: تلك صور كامنة في كل فرد وكل مدينة وقرية ودولة من هذا العالم. كل كيان يحمل الأندلس الخاص به. لم تعد الأندلس محصورة بتلك المنطقة التي كانت ذا إشعاع حضاري لثمانية قرون ثم غابت عن الوجود. من الصور الجمالية الخاصة بالفرد في هذه الأندلس العالمية هي حين يعبر الفرد عن رأيه دون خوف. أن لا يجد من يقمع رأيه وتصادر حريته بالاعتقال والإلغاء. وأن تكون الدولة قائمة على مؤسسات متعددة متحدة في إطار عام يجمع فيما بينها بنظام عادل. لا أن تكون قائمة على مؤسسة واحدة تعيش الرعب والهلع، إذا تعرضت لعواصف من الداخل والخارج تعصف بها وتأخذ معها الأندلس الخاصة بالفرد إلى غياهب المجهول. من الصور المفجعة عن الأندلس العالمية هي الصور المتداولة حالياً لحي في حمص. مباني ومنازل ومحال تعرضت للتدمير بشكل كامل. هذه المباني التي تبدو شعبية لا تحمل أي تحف معمارية وقد لا تملك إرثاً تاريخياً يفد إليه السياح. لكنها عند أهل هذه المنازل والمباني هي أندلس وجنة مخصصة لهم. كم من شاب وفتاة عاشوا في تلك المنازل ولن يستطيعوا بعد الآن أن يشموا تلك الرائحة الملتصقة بهم منذ الطفولة. كم من جدة كانت تنتظر الأحفاد لتوزع عليهم الحلوى أو تنتظر لفتة من زوجها العجوز، أو قد تكون تحمل صورة لزوجها: ليست فوتوغرافية تخلد الزمن الفاني، بل في الجدران والروائح والممرات ودرجات العمارة. أين هم أصحاب تلكم الدار الآن؟ ربما قتلوا، أو هجروا من منازلهم، الأندلس الخاصة بهم، وينتظرون خيمة في صفوف اللاجئين. لم يعد لهم وجود. لا شاهد على تلك الجريمة إلا الحجر الذي لا يتحدث.

يقول واشنطن إيرفينغ في كتاب الحمراء عن سكان غرناطة:
أين هم الآن؟ يجيبك شاطئ المغرب في المنفى. وهناك لم يقوموا بأي تأثير يذكر بعد نفيهم إذ كفوا عن التواجد كأمة ذات معالم ولم يتركوا أي اسم محدد خلفهم. رغم أنهم كانوا شعباً تشكل بثمانية قرون. رفض الجميع اعتبارهم إلا لاجئين أو غزاة. لم يبق لهم أي أثر إلا على صخور الحمراء وبعض الآثار الشاهدة على عظمتهم وسيطرتهم كرمز إسلامي في قلب الأرض المسيحية. الدليل الذي لدينا الآن على هؤلاء الشجعان الأذكياء المـتألقين من ذلك الشعب العظيم هو الحمراء: هذا القصر الشرفي لشعب غزا وفتح وحكم وازدهر ثم غاب عن الوجود.
في ثلاثية غرناطة للروائية رضوى عاشور تبدأ الرواية بصورة مفرطة في الشعرية، عن شاب وسيم مقاتل يسمى معاذ ابن أبي غسان. يرفض أن يكون من ضمن الذين قبلوا بتسليم غرناطة: ليس لديه إلا السيف. خرج من غرناطة قبل تسليمها ممتطياً خيله حاملاً سلاحه، محاولاً أن يمسك ذرة من ذرات الكرامة المتمرغة في الأرض تلك الليلة. في الرواية، وُجد بعد أيام غريقاً في نهر. في المخطوطات التي كتبها الراهب أنطونيو آغابيدا ذُكر أن دورية من كتائب المسيحيين كانت تتفقد شواطئ شنيل. فشاهدوا في الغسق محارباً عربياً مدججاً بالسلاح من قمة رأسه حتى أخمص قدميه. لم يتعرض له أحد إذ تم إعلان الهدنة وقرار التسليم. لكن الكتيبة فوجئت بهذا الرجل وهو يتقدم بسرعة كبيرة وكأنه عازم على اختراق وسطهم فحدث الاشتباك الذي لا مفر منه. لم يتعرض لإصابات عديدة لكثرة الحديد التي يغطي بها جسده. لم يكن – كما يقول الراهب – يقاتل من أي مجد. كان يسعى في إيقاع الموت بخصومه، كطالب ثأر. ظل يقاتل بصورة غربية حتى كُسر سيفه وسقط من حصانه. حين وجد أنه لم يعد يستطيع الدفاع عن نفسه وخوفاً من الأسر، قذف بنفسه إلى نهر شنيل مما جعل دروعه الثقيلة تدفعه إلى قاع النهر ليغرق فيه. يبدأ القارئ بعد تلك الصفحات الشعرية في تتبع سيرة الغرناطي العجوز أبو جعفر وهو يستمع إلى قرار التسليم وغرق ابن أبي معاذ. رغم فقده للأرض التي ولد وتربى عليها إلا إن لديه إيمان بأن من الممكن أن تطل قوات السلطان العثماني لنجدة غرناطة. ذلك الإيمان سقط بالكامل عندما رأى أن أهم جزء لديه في غرناطة، مكتبته الخاصة: الكتب التي كان يقرأ ويكتب عليها ويجلدها تُحرق أمامه من قبل الحاكمين الجدد.

قرأت هذه الثلاثية وصدقاً، لم أتوقع أن تكون كما فكرت مسبقاً. كنت تحت تأثير المخطوط القرمزي لأنطونيو غالا، وهو نص لم يعجبني على الإطلاق. عندما أغلقت الصفحة الأخيرة من ثلاثية غرناطة ظهر جمال الرواية بأبهى حلة. هي رواية عن غرناطة من خلال عائلة في ثلاثية أجيال متعاقبة. عندما تخطيت المائة صفحة الأولى وجدت النص غارقاً حتى أخمص قدميه في حياة هذه العائلة، عائلة أبو جعفر وأحفاده. كيف يعيشون ويتأقلمون مع الحاكم الجديد والنظام الجديد. يبدأ الأندلس المفجع لهذه العائلة عبر مصادرة الحريات والنفي والإلغاء .. التكيف مع القانون الجديد الذي يجبرهم على حمل أسماء أسبانية والتحدث بالقشتالية. الضرائب تفرض بصورة مستمرة: همسات تظهر بأن هناك ثورات قادمة قد تعيد لهم جنتهم المفقودة. ثم الاقتلاع من الأرض كلياً. كأن لا وجود لهم على هذه الأرض التي ولدوا فيها. عندما يغلق القارئ الصفحة الأخيرة لن يجد أو يتذكر أي بطل من أبطال هذه الرواية، لأن البطل الوحيد والرئيس والذي لم يتحدث هي المدينة ذاتها: غرناطة. الزائر لهذه المدينة والحمراء سيذكر قصيدة أحزان في الأندلس لنزار قباني حين يقول:
لم يبقَ من غرناطةٍ
ومن بني الأحمر.. إلا ما يقول الراويه
وغيرُ “لا غالبَ إلا الله”
تلقاك في كلِّ زاويه..
لم يبقَ إلا قصرُهم
كامرأةٍ من الرخام عاريه..
تعيشُ –لا زالت- على
قصَّةِ حُبٍّ ماضيه..
كان الحجر شاهداً على وجودهم ونفيهم ورحيلهم لكنه لا يتحدث: مجرد شاهد وشاهد كبير على إلغاءهم للأبد. في الرواية يبقى هذا الحجر صامتاً إذ ليس له أي دور يذكر. مجرد محيط عام يحدد معالم الأندلس الخاصة بهم. في كتب التاريخ أو المتخصصة بأخبار ذلك العصر لن يقرأ القارئ سوى أسماء الحكام والوزراء والشعراء والمقاتلين وغيرهم من الذين يدور ذكرهم. في الثلاثية يُذكر هؤلاء عرضياً كمؤثر في حياة مجموعة كبيرة من البشر وتنطلق الروائية في بناء عالم شعبي مفرط في البساطة حول حياتهم: علاقاتهم مع الغرباء، وعن أي مستقبل سيتجهون إليه بعد أن تم وضعهم في مكان لا يعرف إلى أين سيقودهم. في الجزء الثاني من الثلاثية تم ذكر محاكم التفتيش بشكل مباشر دون الدخول في أسباب تأسيس هذه المحاكم وأسباب وجودها. كانت الضحية هي حفيدة أبي جعفر: سليمة، التي امتهنت مهنة العطارة وأغرقت نفسها في قراءة كتب الطب مما ممكنها لاحقاً من ممارسة هذه المهنة. إلا أن محاكم التفتيش كان لها رأي حول السلوك العام، والخلطات، والكتب الممنوعة بحكم القانون والمتوفرة لديها. يذكرني مشهد الإقصاء الذي تعرضت لها هذه الشخصية بشخصية جان داراك: تعرضوا جميعاً للمحاكمة من قبل محاكم التفتيش، اتهموا بالشعوذة والسحر، وتم حرقهم أمام الناس. واحد من أجمل مشاهد الرواية هي في هروب عليّ في الجزء الثالث بعد طرده وكل سكان غرناطة من المدينة. يهيم في البراري لأيام ويجد نفسه في جبال عالية تذكره بموطنه الذي رحل منه. ها هو الآن في مكان يستطيع فيه أن يصرخ دون خوف. حين يبدأ بالصراخ يجيبه الصدى. وهو المنفي من موطنه لا يذكر مدينته التي طرد منها. يستحضر الأقارب والأحباب، ويصرخ :
يا جدتي، يا مريمة، يا غرناطة. ثم بكى. تلك اللحظة، بدت له غرناطة مستحيلة.
- 3 –
تاريخ هذه الحرب جديرة بأن تعالج بقلم فيلسوف وأن يدرسها حكيم – لا مجرد رجل دين-.
واشنطن إيرفينغ.
إن كان هناك من زائر خاص ومميز لغرناطة لن يكون إلا الأديب والمؤرخ والدبلوماسي الأمريكي واشنطن إيرفينغ. أقام واشنطن في قصر الحمراء لفترة طويلة. كتب – وهو يسكن في هذا المكان – أشهر مؤلفاته: The Chronicles of the Conquest of Granada ( أخبار سقوط غرناطة / دار الإنتشار العربي، وكتاب الحمراء/ مركز نماء الحضاري Tales of the Alhambra.

اعتمد واشنطن في أخبار سقوط غرناطة على وثائق ومخطوطات لرجل دين مسيحي يدعى أنطونيو آغابيدا، والذي كان يسجل ما يحدث في تلك الفترة بنفس عقائدي لا يرى إلا السيف متحد مع الصليب في حرب دينية لإخراج المحمديين الأشرار خارج الأرض المسيحية المقدسة. هذا النتاج المتناثر لآغابيدا في الأديرة ومكتبة الأسكوريال أظهرها واشنطن للعلن بصورة تختلف عن ما كان يطمح إليه الراهب. هناك جزئيات ناقصة لم يسجلها الراهب قام واشنطن بالاستعانة بمراجع عربية وأسبانية لسد الفراغ. ولم يحذف واشنطن تعبيرات الراهب العقائدية تجاه هذه الحروب الضروس، بل أعاد نشرها موضحاً قبل أي تعبير: وهكذا قال الأب المبجل آغابيداً. إلا أن هذه الأقوال مع طبيعة الحدث نفسه يُظهر التعارض الهائل بين ما يقوله المؤرخ الديني وما حدث على أرض الواقع من جرائم. وبعد سرده لبعض الأقوال من مؤرخين مسيحيين يبشرون بالفوز المسيحي والتكفير عن ذنوبهم بعد استعادة غرناطة يقول واشنطن في نهاية مقدمته: قد قلنا ما فيه الكفاية لجذب القارئ المسيحي إلى الساحة ليتبعنا ويقف بجانبنا في هذا النزاع ولا يلومنا في سرد ووصف حقائقه. هذا الكتاب بعيداً عن طبيعة الوصف الحربي بين الطرفين واستعدادات كل طرف إلا أنه جميل و ممتع. يبدأ واشنطن من قرار أبو الحسن إيقاف دفع الجزية إلى نظرة أبي عبدالله الصغير الأخيرة لغرناطة.

كان لواشنطن أسلوب ملفت للنظر في تعامله مع أبي عبدالله الصغير. في اللحظة التي يتخذ فيها الصغير قرار جريئاً يسميه صراحة بأبي عبدالله الصغير. وفي لحظات الهزيمة والسقوط يصفه ببدول الشيكو. لو كان هناك حاكم آخر غير أبي عبدالله الصغير هل كانت ستسقط غرناطة؟ من الصعب النظر إلى تاريخ تلك الفترة بمنظار العصر الحالي إلا أن كل المؤشرات كانت تدل على حتمية السقوط بلا جدال. في غرناطة كان التناحر على أشده: ينتقل الملك من شخص إلى آخر بلمح البصر: عصبيات قبلية تتصارع على أشدها. وفي الجهة الأخرى جهة واحدة تحت مؤسسات متعددة هدفها واحد و رؤيتها واحد. عندما أقام واشنطن في غرناطة وكتب كتاب أخبار سقوط غرناطة وكتاب الحمراء، تتبع واشنطن سيرة أبي عبدالله الصغير من المكان الذي تم تهريبه منه إلى تلك الهضبة التي تسمى آخر ما رآه العرب. لا أظن بأن هناك مؤرخ متعاطف مع أبي عبدالله الصغير أكثر من واشنطن، وتحديداً في فصل تذكرة بأبي عبدالله في كتاب الحمراء. يشير واشنطن أن أبي عبدالله كان يتمتع بشجاعة ينقصها شجاعة خلق الإقدام والثبات إزاء الأيام الصعبة المتقلبة عليه. روحه اللاثورية عجلت بسقوطه وحرمته من عظمة البطولة التي كان بالإمكان أن تعطيه كرامة المصير.
من مدونة أرصفة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق