لكل شعب طريقه الخاص في التطور. البعض يعثر على الطريق الصحيح بسرعة، نسبيا، والبعض الاخر يتطلب منه ذلك بضعة قرون اضافية، تعيقه افكاره الجامدة وتمسكه بعادات القرون الحجرية وعزته الفارغة، ولكن في النهاية يضطر الى ابتلاع مكابرته والاعتراف بالضرورة. وعلى الرغم ان الثورات التي تندلع، في غالبيتها تتشابه بالبشاعة والفظاعات، المرتكبة بأسم الفضيلة، وتتشابه في محاولة الانتهازيين ركوبها والاستيلاء على نتائجها، وان القسم الضئيل منها ينتهي نهاية سعيدة، الا ان التغييرات الكبيرة تستلزم بالضرورة ثورات. المؤسف فقط ان ذلك لايعني نهاية الالم وانما لربما بدايته على اسس جديدة.. من هنا اهمية التطلع الى الثورة الفرنسية للمقارنة.
صيف عام 1789 كان حار للغاية. كان الباريسيون غير قادرين تحمل البقاء داخل منازلهم، المصممة لحفظ الحرارة. البقاء بالخارج يؤدي الى التجمعات وتبادل التعبير عن القلق، فالدولة كانت على ابواب الافلاس، إذ ان الديون اقتربت من 56 مليون ليرة، وكانت الاسواق تفتقد كل شئ، بما فيه الخبز.
بين تجمعات الناس كان الدعاة يتجولون ويدعون للثورة. كانوا يطالبون بإنشاء برلمان، ليتكلم بأسم الشعب وليصدر القوانين ويبني نظان ينهي تفرد الملكية والامتيازات التي تعيش فيها الارستقراطية.
كان الفلاحون والعمال قد تعبوا من مداخيلهم القليلة. والطبقة البرجوازية الوسطى، ومن بينها الاطباء والمحاميين والتجار لم يكونوا راضيين عن النظام القديم الذي يقدم الخيرات فقط لرجال الدين والاقطاعيين. إضافة الى ذلك كان الجميع مستائين من فقدان الخبز.
في نفس الوقت كان الملك لودفيغ السادس عشر في قصره في فرساي خارج باريس. لم يكن الملك او الملكة يفهمون اسباب امتعاض الشعب. عندما سمعت الملكة بالتظاهرات من اجل الخبز قالت:" إذا كانوا لايملكون الخبز يستطيعون تناول التورتة".
غير ان حياة البذخ في القصر الملكي وصلت الى نهايتها مع انتفاضة الشعب يوم 14 يوليو 1789. الاف الناس اجتمعت بعد ان شاعت الاشاعات ان 15 الف جندي ملكي في طريقهم الى باريس لتنظيف الشوارع من الرعاع، بالقوة.
كانت الاشاعات غير صحيحة، غير انها نجحت في اقناع الناس ان الوقت قد حان لرفع السلاح. المشكلة كانت في انهم لم يكونوا يملكون السلاح. لذلك زحفت الجموع الى المستشفى العسكري " ليس انفاليديس" حيث يوجد 32 الف بارودة في الشرداق.
جنود حماية باريس كانوا يتعاطفون مع الانتفاضة ومنهم من انضم الى الشعب في انتفاضتهم. غالبية الجنود من طبقات فقيرة كما انهم يأكلون في المطاعم الشعبية لذلك يعرفون نبض الشعب.
امتلاك بارودة بدون ذخيرة بدون فائدة. لهذا السبب انطلقت الجماهير الغاضبة الى سجن باستيل، إذ قبل يوم واحد جرى تجميع جميع ذخيرة المدينة، 15 الف كيلو، في مخازن السجن، لكون المكان آمن.
الباستيل قلعة من القرن الرابع عشر، وتملك ثمانية ابراج دائرية مرتبطة بسور ارتفاعه 25 متر وعرضه اربعة امتار. ويحيط بالقلعة خندق يمكنه ملئه بالماء، والباب الرئيسي يرتبط بجسر فوق الخندق يمكن رفعه.
يملك الباستيل سمعة سيئة، حيث يقال ان المساجين كانت موثقة بالسلاسل. الواقع كان مختلفا، إذ كان المساجين يملكون زنزانات مريحة، لهم الحق بإمتلاك أغراضهم الخاصة ولهم الحق بإستقبال زوارهم في الزنزانة. وكان لكل سجين الحق بمبلغ يومي لشراء الطعام. وإذا تمكنوا من توفير بعض النقود لهم الحق باخذها معهم، بعد انقضاء محكوميتهم. ولم يكن هناك مساجين سياسيين كما تدعي الاشاعات. عندما اقتحم الثوار الباستيل كان هناك اربعة بتهمة تزوير العملات واثنين من المجانين، أحدهم كان يعتقد انه يوليوس قيصر او الله، وشخص اخر مسجون بتهمة اغتصاب ابنته.
عندما اجتمع الناس حول الباستيل كان كان مديره الماركيز لاوني يأكل طعام الفطور، الساعة العاشرة. كان لاوني شخصا مترددا ليس لديه خبرات عسكرية. وتحت امرته يوجد 82 جندي متقاعد يعملون كحراس و33 شخص من الحرس السويسري.
بعد الفطور يسمع اصوات الناس الغاضبة، ويبدأ في استقبال الوفود للتفاوض لتسليم القلعة، ولكن لاوني كان متردد. كان لاوني يحاول كسب الوقت معتقدا ان قوات من الملك ستأتي لنجدته. غير انه كان متأكدا من ان الحرس الذي تحت امرته كانوا يتعاطفون مع الثوار، في حين ان الضباط يرفضون الاستسلام لان ذلك ينتهك مبادئ الشرف.
فقط في المساء بدأ المرء يسماع صوت الطلقات. لااحد يعلم من الذي بدأ في اطلاق النار، ولكن ذلك كلف حياة مئة شخص تقريبا. في ذلك الوقت انضم احد ضباط الحرس الوطني الى الناس المحاصرين للباستيل، وفي طريقه الى هناك حرض بعض الجنود عل مرافقته مصطحبين بعض المدافع. هذه المدافع هي التي حسمت مصير الباستيل.
عندما وصل الجنود الى القلعة نصبوا مدافعهم بمواجهة باب القلعة. لاوني فهم على الفور ان المعركة قد انتهت، وان القضية مسألة وقت. لقد حاول الاستسلام ولكن الجموع الهائجة لم تفهم اشاراته، إذ كان يصرخ من احدى النوافذ ويلوح بالمنديل الابيض ، غير ان الجموع اعتقدات ان أحد الجنود يلوح لهم طالبا منهم الهجوم.
امام هذه الفوضى يغير لاوني التكتيك، فيكتب بخط كبير على لوحة يحذر من ان هناك مخزون كبير من البارود وانه سيقوم بتفجيره إذا لم تتراجع الجموع. غير ان ذلك ادى الى ردة فعل عكسية. الجموع بدأت تصرخ:" لن نستسلم، اهدموا البوابات". عند ذلك امر لاوني بتنزيل الجسر وفتح الابواب، لتسقط القلعة، أخر معقل للملك.
الجموع تأخذ لاوني والضباط اسرى وتقودهم عبر شوارع باريس. تحت تأثير الانتصار، الجلاد يقوم بإهانة مدير الباستيل والبصق عليه. في النهاية يفقد لاوني القدرة على التحمل فيرفس احد معذبيه. عند ذلك تهجم عليه الجموع وتبدأ بطعنه بالسكاكين والمعاول والفؤوس. بعد ذلك يقومون بفصل رأسه عن جسده، ويتمخترون به في شوارع باريس.
بسرعة تنتشر الثورة من المدينة الى القرى، والاشاعات هي التي تقوم بأشعال النار في النفوس. حسب الاشاعات تجوب عصابة في البلاد لتنهب القرى والدساكر ثم تحرقها. الاشاعة تبث الذعر بين الفلاحين ويتوجه الفلاحون للتسلح والاستعداد لاستقبال العدو الغير موجود. ولكن هذه الطاقة التي جرى تحشيدها تحتاج الى اشعال نيران وخلق ضحية، لذلك يتوجه الفلاحون نحو ضياع الاريستقراطيين والاقطاعيين وكبار المزارعين المتروكة لتبدأ عمليات التخريب والنهب. في جميع انحاء البلاد تنهار بنية الدولة القديمة.
في البداية يتشكل مجلس شعبي لادارة السلطة، ولكن بسرعة يصعد افراد راديكاليين وقادرين على ادارة الخطاب حسب المزاج الشعبي.
السنوات التالية تتميز بالادارة الفوضوية حيث قادة الثورة تتصارع مع بعضها على السلطة. ومع ذلك لاينسون قادة النظام القديم. روبسبيير ، قائد الثورة، يرسل الاف الاريستوقراطيين، بما فيه الملك نفسه، الى المقصلة. بعد نصف سنة فقط من أعدامه للملك يصبح روبسبيير نفسه ضيفا على المقصلة، كنتيجة لنظام الارهاب الذي أقامه، وفي خلاله قتل 40 الف شخص، غالبيتهم على المقصلة، ولكن الكثيرين منهم قتلى في حملات اعدام جماعي وشعبي. في مدينة ليون، مثلا، استخدموا المدافع، وسيلة للقتل، لتوفير الوقت.
وعلى الرغم من ان الثورة الفرنسية كانت واحدة من اسوء حمامات الدم، على مر التاريخ، إلا أنها كانت فاتحة الطريق للتطور الديمقراطي في اوروبا، وهي خطوة كبيرة للامام. بعد الثورة الفرنسية، اصبحت السلطات المطلقة للملوك ليس امرا مفروغا منه. لقد اصبح بالامكان المطالبة بالملكية الدستورية، واصبح بأمكان فقراء اوروبا تغيير ظروف حياتهم والاشتراك في تحديد شروط اللعبة السياسية والاقتصادية.
بقية البلدان الاوروبية فهمت التحولات وبدأت الاصلاحات. مبادئ الثورة الفرنسية عن الحرية والمساواة والاخوة اصبحت جزء من الدستور عام 1789، لتبدأ الخطوات الاولى والسلمية نحو تطور لديمقراطية اكبر واوسع. فقط في عام 2012 اصبحت هذه المبادئ امرا مطلوبا في العالم العربي، لازال نيله يحيطه الكثير من الصعوبات.
يقولون أستاذي أبو هشام أنَّ من أخرج المقصلة للشارع هو من كان من بين ضحاياها..أريد أن أقول أن الثورة الفرنسية قضت حتى على من قاموا بها مثل بارا وروبيسبيار وغيرهما
ردحذفاختيار موفق أستاذي